العراق: خطف النساء أصبح قضية رأي عام

لم يكن خطف النساء يوما من الأفعال التي يرتضيها حتى عتاة المجرمين وقطاع الطرق، لأن المسألة تتعلق بحرمة المرأة وشرف الرجل.

فهكذا تعامل العرب والمسلمون مع النساء، فجنّبوهن الحروب والصراعات، وحرصوا على عدم ادخالهن طرفا في النزاعات والخلافات. أما المرأة الضيف، فلها حرمة مضاعفة، فهي تُحتَرم وتُصان وتحمى وتُكرَّم، أولا لأنها امرأة، وثانيا لأنها ضيف، فهذه هي أخلاق مجتمعاتنا.

لكن الأوضاع تغيرت في العراق في السنوات الأخيرة، بعد دخول ثقافةٍ غريبة، ثقافةٍ قائمة على الدجل والخداع وتبرير الموبقات والجرائم دينيا! والأسوأ من هذا، أن المعتدين لا يكتفون بارتكاب الجريمة، بل يتعدون ذلك إلى الافتراء على ضحيتهم فيغتالونها أخلاقيا بعد اغتيالها جسديا، فيختلقون قصصا واتهاماتٍ لتبرير أفعالهم الشنيعة.

هيلا ميفيس، فنانة ألمانية، متخصصة في إدارة المسرح وقد زارت بغداد لأول مرة عام 2011 للمشاركة في مهرجان مسرحي، وكانت قبل ذلك تعيش في القاهرة حيث تعلمت اللغة العربية، لكنها وقعت في حب بغداد، وشعرت بأنها في مدينتها وبين أهلها، فعادت إليها عام 2013، عندما أعلنت بغداد عاصمة للثقافة العربية، لتقود مشروعا فنيا بتمويل من معهد غوثة الألماني (Goethe Institut) وجمعية التعاون الدولي الألمانية (GIZ).

ومنذ ذلك الوقت وهي تعيش وتعمل في بغداد، منسجمة مع المجتمع الفني والثقافي، إذ كان لها حلقة من الأصدقاء والصديقات الذين يعملون معها.

كانت تذهب يوميا على دراجتها الهوائية للعمل في مركز (بيت تركيب) الفني وسط بغداد الذي أسسته عام 2015، ليكون مركزا عراقيا للفن المعاصر، وكانت تستخدم مهاراتها وخبرتها الفنية في الرسم والتصوير والمسرح، التي اكتسبتها من عملها كمديرة في غاليري “كونستهوف برلين”، لتدريب الفنانين العراقيين الشباب وإطلاعهم على الفنون الغربية، ثم تعود إلى منزلها غير البعيد من مركز العمل. 

اندمجت بالمجتمع العراقي وطورت من لغتها العربية وأخذت تنخرط في النشاطات الاجتماعية والثقافية، فطالما رآها الناس في ساحة التحرير وشارع المتنبي الثقافي أو الأسواق الشعبية تتجول مع أصدقائها وصديقاتها العراقيين.

إلا أن مسلحين (مجهولين) اعترضوها يوم الاثنين الماضي، العشرين من تموز/يوليو، أثناء عودتها إلى منزلها واختطفوها وضحَ النهار إلى مكان مجهول.

وحال انتشار خبر اختطافها، استنفرت الشرطة وباقي الأجهزة الأمنية كل قواها وطاقاتها للبحث عنها، إذ وضع الاختطاف الحكومة العراقية في موقفٍ حرِجٍ أمام المجتمع الدولي عامة، والمجتمع الفني والثقافي العراقي والعالمي خاصة، فعثرت عليها بعد ثلاثة أيام محتجزةً في بيت مهجور في أحد الأحياء الشعبية شرقي العاصمة.

ويعتقد مراقبون بأن صفقة (سياسية) أبرمتها الحكومة مع الجهة (السياسية) التي (ترعى) الخاطفين لإطلاق سراحها! وليتها فعلت الشيء نفسه وأبرمت المزيد من الصفقات كي تفرج عن المختطفين الآخرين وأبرزهم المؤرخ والصحفي توفيق التميمي، والكاتب والناشر مازن لطيف، اللذين اختُطفا مطلع العام.

ولا يعرف أحد حتى الآن أي شيء عن مصيرهما، علما أنهما ليسا سياسييْن كي يغضب منهما طرف سياسي محدد، وليسا ثرييْن كي يطمع الخاطفون بأنهما سيدفعانِ دية مجزية مقابل إطلاق سراحهما. كما يوجد على الأقل 123 مغيبا آخر من المتظاهرين الذين لا يعرف أحد مصيرهم منذ اختفائهم في فترات مختلفة خلال ستة أشهر من الاحتجاجات العراقية.

عصابات الخطف والقتل والسرقة والابتزاز معروفة في العراق، وجرائمها تتفاقم باستمرار خلال السنوات الخمس الأخيرة، وهي جميعا تتمتع بـ(رعاية) سياسية وحماية عسكرية ودعم من دولة معروفة، وتمويل من ممارسات الفساد السائدة في البلد. بل حتى تنظيم داعش كان يمول نشاطاته الإرهابية من أموال وإيرادات الدولة، عبر الابتزاز والعمولات والرشاوى والخطف.

ولا ننسى أن هناك دولةً متشدقةً بالدين والمذهب، ترعى مليشيات وعصابات جريمة منظمة في العراق، وطالما هرب إليها المجرمون من سياسيين وخاطفين وسراق وقتلة كي يختفوا في مدنها أو يهربوا من هناك إلى دول أخرى كي ينفقوا مما كسبت أيديهم ويستريحوا من عناء الحياة في العراق!

خطف النساء حالة جديدة ومعيبة، وستكون لها نتائج عكسية مستقبلا، وإن كانت لدينا دولة لديها الحد الأدنى من القوة والهيبة، لضربت بيد من حديد على أولئك الذين يدنسون شرف المجتمع ويعتدون على الشريحة الأكثر سلمية وانتاجية فيه.

هذه العصابات لا تزال تتشدق بالدين، ولا يوجد حل معها سوى أن تواجهها الدولة بالقوة، وفي الوقت نفسه يجب أن تتصدى لها المؤسسات الدينية كي تعريها وتكشفها على حقيقتها.

هناك زعماء عصابات يرتدون الزي الديني، وهؤلاء يجب أن تشخصهم المؤسسات الدينية الرسمية وتلجمهم وتنزع عنهم الصفة الدينية، لأن السكوت عنهم يشجعهم على ارتكاب المزيد من الموبقات والجرائم باسم الدين، وهذا يشوه الدين ويبعد الناس عنه.

أحد السياسيين ارتدى الزي الديني بعد سقوط الموصل عام 2014 وشكل مليشيا مسلحة، ولم يكن يرتدي الزي الديني سابقا. ألا يعني هذا توظيف الدين لأهداف غير مشروعة؟

أحد المساجد في العراق، الذي يديره سياسي يرتدي الزي الديني، لديه (وكالة أنباء)! وهذا (المسجد) ربما الوحيد في العالم الذي ينافس وكالات الانباء العالمية في نقل (الأخبار)! لكنه يتميز عن باقي ناقلي الأخبار بأن أخباره حصرية! لا تنقلها الوكالات الأخرى! والسبب هو أنها ملفقة ولا أساس لها من الصحة.

هذه الوكالة تزخر بالقصص والاخبار الكاذبة والافتراءات على من يبدي رأيا مخالفا لرأي صاحبها، وهي تختلق غرائب القصص التي تصلح مادة للأفلام الهندية، لتلصقها بسياسيين ونواب مخالفين في الرأي لصاحبها.

مثل هؤلاء الأشخاص يسيئون للدين والمؤسسة الدينية الحقيقية، لذلك ليس من الحكمة السكوت عنهم لأنهم يتاجرون بالدين ويسيؤون له.

كانت الألمانية هيلا ميفيس محظوظة أنها أُفرِج عنها خلال ثلاثة أيام، وخرجت سالمة ولم تتعرض لأذى جسدي، رغم أن وضعها النفسي كان في أسوأ أحواله دون شك، فتخيلوا حال فنانة غربية عاشت حياة طبيعية يختطفها مجرمون عتاة ويروّعونها ويتركونها وحيدة في بيت مهجور لثلاثة أيام!

لكنها مع ذلك محظوظة أنها خرجت من الأزمة سالمة وأنها سوف تغادر إلى بلدها، وبالتأكيد لن تعود، بعد هذه التجربة المرعبة، إلى بلد تتعرض فيه حياتها للخطر وكرامتها للانتهاك وسوف يخسر العراقيون هذا النشاط الفني الذي تموله ألمانيا وينتفع منه العراقيون.

نساء أخريات، مثل البريطانية مارغريت حسن، لم يحظين بمثل هذه المعاملة، فقد خطفها (مجهولون) وقتلوها لا لذنب اقترفته بحق أحد، بل لأنها خدمت العراق عبر عملها الخيري الذي استمر ثلاثين عاما، إذ بقيت تعيش سعيدة مع زوجها العراقي، وسط المجتمع البغدادي، وتحت ظروف صعبة مر بها البلد، في ظل العقوبات الدولية في تسعينيات القرن الماضي.

أما سعاد العلي فقد قتلت في عملية اغتيال غادرة في البصرة، ولم يكتفِ القتلة بقتلها فحسب، بل اختلقوا قصة تمس شرفها وهي المرأة المعروفة بالشرف والشجاعة والوطنية لذلك لم يصدقهم أحد.

تارة فارس ولقاء عبد الرزاق وخمائل محسن ود. رفيف الياسري ود. هالة عبد الواحد ورشى الحسن وأطوار بهجت وعشرات غيرهن من النساء اللائي اختطفت وقتلن بطرق غادرة ودنيئة وبعضهن اغتصبن قبل أن يقتلن. 

أحد زعماء العصابات خرج لوسائل الإعلام دون خوف او حياء ليعترف باختطاف ناشطة ثقافية واحتجازها لبضعة أيام و(إعادتها إلى بيتها سالمة بعد التحقيق معها)! وكأنه قد أسدى لها وللمجتمع فضلا، بأن عصابته اختطفتها ولم تقتلها!

وحالما اختطفت هيلا، بدأت عصابة الخاطفين بنسج قصص حولها من وحي خيالها المريض، بهدف الإساءة إلى سمعتها، فقال أحد المنشورات إنها كانت تعمل “راقصة” في ألمانيا لكنها “غير معروفة في الوسط الفني الألماني”!

وليس معلوما كيف حصل هذا المفتري على هذه المعلومة، وهو القابع في ظلمات الكهوف، إن كانت هيلا غير معروفة في الوسط الفني الألماني؟ كما اتهمها المنشور بأنها كانت “تتجسس لصالح إسرائيل”! وأنها “ليست ألمانية”! أو أنها “دخلت العراق سرا وعاشت فيه دون إقامة رسمية”!

وما إلى ذلك من أكاذيب تهدف إلى خلط الأوراق والتقليل من فظاعة الجريمة. والحقيقة أن هيلا فنانة متخصصة في المسرح والإدارة ومتزوجة، وقد عملت مع زوجها لسنين طويلة في غاليري “كونستهوف برلين”.

يتساءل عراقيون عن جدوى هذه الأفعال الإجرامية ومدى فائدتها حتى للجماعات التي ترتكبها؟ والجواب هو أن هذه الجماعات تعمل على زعزعة استقرار العراق وإضعافه وإفقاره وجعله تابعا لدولة أخرى معروفة، ومثل هذه الأفعال تساهم بإضعاف الثقة بأمنه وباقتصاده وتبعد عنه المستثمرين والسياح والكفاءات الوطنية والأجنبية.

فيبقى معتمدا على تلك الدولة يستورد منها الخيار والطماطم والفجل والتمر والطوب والكهرباء والغاز، وربما الماء مستقبلا، بينما يذهب مرضاه إلى عياداتها ومستشفياتها للعلاج، ويذهب تجاره إلى مصانعها وأسواقها، وسياحه إلى مدنها ومعالمها التأريخية والدينية، ما يساهم في تعزيز اقتصادها المنهار بسبب سياسات قادتها الطائشة، ويبقى العراق دولة ضعيفة قلقة وتابعة، تقدم الخدمات حسب الطلب.

إذن الهدف من هذه الأفعال هو زعزعة استقرار البلد وإفقاره، فهذه هي الخدمة التي تقدمها هذه الجماعات الإجرامية لأعداء العراق.

لذلك ليس مجديا مخاطبة هذه العصابات بالقول إن هذه الأفعال سوف تضر بالعراق وتبعد عنه المستثمرين والكفاءات والسياح، فهذا هو بالضبط ما تسعى إليه هذه الجماعات، ولا حلَ إلا بمواجهتها بالقوة وإلحاق الهزيمة بها، فالعصابات لن تكون أقوى من شعب مصمم على الخلاص والعيش في القرن الحادي والعشرين كباقي شعوب الأرض.

قد يعجبك ايضا