كيف نفهم الإضراب عن الطعام ضمن سياقات الترميز؟

تناول رئيس مجلس الأمناء للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان ريتشارد فولك في مقال له قضية الإضراب عن الطعام لمعتقلين داخل السجون وكيفية فهم الإضراب عن الطعام ضمن سياقات الترميز.

وفيما يلي نص المقال كاملا:

تؤدي الظروف اليائسة إلى سلوك يائس. وفي حال صدر السلوك المتطرف العنيف عن الدول، فإنه يعدّ “دفاعًا عن النفس”، أو “لضرورة عسكرية” أو “لمكافحة الإرهاب”، ويتم التعامل مع ادعاءات التفويض القانوني على أنها مناسبة.

أما في حال تنفيذ حركات المعارضة أعمالًا غير عنيفة، فإن النظام القائم ووسائل الإعلام الداعمة له سيصفون بشكل تلقائي مثل هذه الأعمال “بالإرهاب” و “الإجرام” و “التعصب”، وسيتم تجريم تلك الأعمال أو ازدرائها في أحسن الأحوال.

تعتمد أشكال القتال الرسمية للدولة دائمًا على العنف لسحق العدو، في حين تلجأ المقاومة أحيانًا إلى إيذاء النفس لدفع الظالم إلى التراجع أو حتى الاستسلام في نهاية المطاف، ليس بسبب التعاطف أو الرغبة في التغيير، لكن بسبب الخوف من تنفير الرأي العام أو تكثيف المقاومة أو فقدان الشرعية الدولية أو مواجهة العقوبات.

في ظل هذه الخلفية الشاملة، يجب أن نفهم دور الإضراب عن الطعام في السياق الأوسع للمقاومة ضد جميع أشكال الحكم القمعي والاستغلالي والقاسي.

تعد الصراعات السياسية طويلة الأمد في إيرلندا الشمالية وفلسطين من أكثر الأمثلة المؤثرة لمثل هذه المواجهات السياسية التي استحوذت على الخيال الأخلاقي للعديد من أصحاب الضمير في السنوات التي تلت منتصف القرن الماضي.

يدرك النشطاء المعتقلون الذين يلجؤون إلى الإضراب عن الطعام إما بشكل فردي أو جماعي، أنهم يختارون خيار الملاذ الأخير، إذ يظهرون استعدادهم للتضحية بأجسادهم وحتى بحياتهم نفسها من أجل أهداف أكثر أهمية، وعادة ما تتضمن هذه الأهداف إما الحفاظ على كرامة أو شرف الأشخاص المقهورين أو حشد الدعم للنضال الجماعي من أجل الحرية والحقوق والمساواة.

الإضراب عن الطعام هو شكل من أشكال اللاعنف، لا يمكن مقارنته إلا بأفعال التضحية بالنفس لدوافع سياسية، ولا يلحق الأذى إلا بصاحبه، ومع ذلك يمثل في ظروف معينة إمكانات رمزية غير محدودة للتغيير، ويؤدي إلى إثارة الرأي العام الذي كان يُعتقد أنّه قُمع بنجاح. كانت مثل هذه التكتيكات اليائسة جزءًا لا يتجزأ من النضال من أجل الحقوق الأساسية ومقاومة الظروف القمعية في كل من فلسطين وأيرلندا الشمالية.

هناك حقيقة غير معترف بها لكنها مهمة للتاريخ الحديث، وهي أن سياسة الترميز غالبًا ما سيطرت في النهاية على نتائج النضالات الطويلة ضد الجهات الحكومية القمعية التي تمارس سيطرة مهيمنة على مناطق القتال وتفوقًا بلا منازع فيما يتعلق بالأسلحة والقدرات العسكرية.

ومع ذلك، على الرغم من مزايا القوة الصلبة التي يعتقد أنها حاسمة في مثل هذا الصراع، إلا أنها تلحق بها في النهاية الهزيمة السياسية. قد يكون من المفيد أن نتذكر أن التضحية بالنفس للرهبان البوذيين في سايغون خلال الستينيات كانت تعتبر صرخة ثقافية كرد فعل للتدخل العسكري بقيادة الولايات المتحدة.

لقد أدى ذلك بالعلماء الفيتناميين إلى تفسير هذه الأعمال المتطرفة للأفراد المنفردين، الذين يتمتعون بأعلى سلطة حضارية، على أنها تحول في ميزان القوى في فيتنام بطرق أودت بالقوة العسكرية الأمريكية التي بدت لا تقاوم وسعت للسيطرة على المستقبل السياسي لفيتنام.

هذه الأعمال لم تنه الحرب، بل أشارت لأولئك الذين لديهم نظرة ثاقبة للثقافة الفيتنامية بنتائج عكس تلك التي توقعها مخططو الحرب في واشنطن قبل الاعتراف بالهزيمة، استمرت حرب فيتنام بشكل مفجع لعقد من الزمن، حيث دمرت الأرض وجلبت المعاناة لشعب فيتنام. إن منطق الانتحار أو حرق النفس على وجه الخصوص هو خير مثال للتضحية بالنفس الذي لا رجعة فيه، اعتمادًا على الشخص المنتحر والظروف المحيطة. ويعبر الانتحار عن درجة اليأس الكبيرة التي تجتاح الشخص المنتحر، أو يمكن أن تعبر عن نداء استغاثة لسلام عادل.

وأشعل انتحار بائع الفواكه والخضروات محمد البوعزيزي في 17 ديسمبر عام 2010 في بلدة سيدي بوزيد التونسية انتفاضة ضد الديكتاتور الفاسد بن علي وأسقطته من الحكم.

جاء انتحار بوعزيزي بدون أي دافع سياسي، حيث أشعل انتحاره حركات شعبوية في العالم العربي عام 2011. فردة الفعل هذه لم تكن متوقعة البتة ولم يتم التخطيط لها أيضاً، ولكن لاحقاً اعُتبر هذا الحدث سبباً لاستجابات ثورية لظروف حياتية لا تطاق.

تعتبر السياسة في عصرنا هذا المقاومة غير العادية هي الانتصار الكبير في عالم السياسة، وتعتبر حركة التحرير بقيادة غاندي والتي جمعت إضراباته الفردية عن الطعام حتى الموت مع العمل الجماعي اللاعنفي كمسيرة الملح عام 1930 خير مثال لذلك. حقق هذا النوع من المقاومة ما بدا مستحيلاً آنذاك، وأخضع الإمبراطورية البريطانية، وبالتالي انتزع منها سيادة دولة الهند لتعود دولةً مستقلة.

تمثل الانتصارات السابقة وحتى الهزائم والاخفاقات دروساً لكل من الظالم والمظلوم، فالمظلوم يعتبرها نهجاً عظيماً للمقاومة والتحرير، أما الظالم فينظر للحروب بشكل مختلف، بحيث لا يعتبر الانتصار في ساحة المعركة هو الحسم، بل الانتصار الحقيقي يذهب لمن يكتسب الأفضلية الرمزية والذي أسميته سابقاً “حرب الشرعية”.

ومن هذا المنطلق، عندما يعترف الظالم بضعفه، يلجأ إلى العنف المفرط لتدمير وردع إرادة المظلوم في المقاومة بأي وسيلة حتى وإن اضطر الظالم لانتهاك الأخلاق والقوانين السامية.

فمثلاً، إسرائيل تعلمت درساً من انهيار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مفاده عدم الاستخفاف بسياسة الترميز، حيث تجردت إسرائيل من ضميرها في الرد على التحديات الرمزية لنظام السيطرة العنصري.

بدعم الولايات المتحدة، شنت إسرائيل حملة تشهير عالمية ضد كل من انتقدها من المدافعين عن حقوق الإنسان حول العالم. ثم لجأت إسرائيل بكل وقاحة لورقتها المعتادة “معاداة السامية” في جهودٍ متواصلة لتدمير التضامن مع حركة المقاطعة المؤيدة للفلسطينيين والتي تشبه الجملة التي حشدت المعارضة العالمية ضد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، لاسيما أنه تم التشكيك في تكتيك هذه المقاطعة من حيث الفعالية والملاءمة، ولكن لم يتم التشهير بمنظمي الحملة ولا أنصارها ولا تجرميهم.

وإضافةً إلى ذلك، فإن اعتراف إسرائيل بفاعلية سياسة الترميز شكل عائقاً لنضالات التحرير الفلسطينية على الرغم من أن ذلك يشكل حقائق مفيدة لوقائع ما بعد الاستعمار.

ظهرت نسخة إسرائيل من نظام الفصل العنصري كأثر جانبي ضروري لتأسيس دولة يهودية حصرية في دولة غير يهودية. تطلب هذا المشروع الصهيوني أن يصبح الشعب الفلسطيني ضحية تهجير استعماري في وطنه.

تعلمت إسرائيل من تجربة جنوب إفريقيا تقنيات التسلسل الهرمي والقمع العنصريين، لكنها كانت تدرك أيضًا نقاط ضعف المضطهدين في مواجهة أشكال مستدامة من اللاعنف والتي تثبت شرعية المقاومة المستمرة للمضطهدين. إن إسرائيل مصممة على عدم تكرار انهيار نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، والقيام بذلك يتطلب ليس فقط قمع المقاومين ولكن إحباط معنويات المؤيدين.

وُجد واقع مشابه في أيرلندا الشمالية حيث ذكريات ضياع المستعمرات أمام أعداء أضعف. حوّل القادة في لندن تركيزهم من مكافحة الإرهاب إلى الدبلوماسية وصولًا إلى ذروة الدراماتيكية في اتفاقية الجمعة العظيمة عام 1998. إسرائيل ليست المملكة المتحدة والأيرلنديون ليسوا الفلسطينيين.

أي لا تظهر إسرائيل أي استعداد لمنح الشعب الفلسطيني أبسط حقوقه، ومع ذلك، حتى إسرائيل لا تريد أن تتعرض للإذلال بطرق يمكن أن تثير الرأي العام الدولي فيتم تجاوز خطاب اللوم إلى أبعد من ذلك وفرض العقوبات.

لا تريد مصلحة السجون الإسرائيلية موت الفلسطينيين المضربين عن الطعام أثناء وجودهم في المعتقل، ليس بسبب التعاطف، ولكن لتجنب الدعاية السيئة.

لمنع مثل هذه النتائج، ستقدم سلطات السجون الإسرائيلية تنازلات، بما في ذلك الإفراج عنه، عندما يصل المضرب عن الطعام إلى حافة الموت، وتفشل محاولات الإطعام القسري له.

تعتمد الآفاق الفلسطينية أكثر من أي وقت مضى على تحقيق الانتصارات في مجال سياسة الترميز، وستذهب إسرائيل، بمساعدة الولايات المتحدة، إلى أبعد مدى لإخفاء الهزيمة في أطول حروب الشرعية هذه.

في ظل هذه الخلفية، ظهرت المساهمات الفلسطينية والأيرلندية على السطح للتأكيد على التشابه الأساسي لهاتين الحالتين من النضال الملحمي ضد الاستعمار.

ما يعطي قصص المضربين عن الطعام الفلسطينيين والأيرلنديين السلطة والقوة المقنعة هو الأصالة المستمدة من كلمات أولئك الرجال والنساء الشجعان الذين اختاروا الإضراب عن الطعام في حالات اليأس ولم يختبروا الألم فقط من محنتهم المعززة للروح ولكن من فقدان الرفاق الشهداء الذين سقطوا، والأسر المكلومة، وجهودهم المشتركة لإشراك النضالات بشكل واسع من أجل الحقوق والحرية التي تجري خارج أسوار السجن.

على الرغم من الاختلافات الشاسعة في نضالاتهم ضد الاضطهاد، فإن أوجه التشابه في الاستجابة خلقت أعمق الروابط، خاصةً الأيرلندية تجاه الفلسطينيين الذين كان واقعهم القمعي أشد قسوة، وأثبت أنه أكثر ديمومة، على الرغم من بقاء أحلام المضربين عن الطعام الأيرلنديين غير محققة إلى حد كبير.

في الوقت نفسه، لم يغب الفلسطينيون عن المثال الملهم للمضربين الأيرلنديين عن الطعام الذين لم يتخلوا عن سعيهم لتحقيق العدالة الأولية عند أعتاب الموت.

قد يعجبك ايضا