الرياض وطهران: هل الترويج للتسامح الديني يحترم حقًا حقوق المواطنين في الداخل والخارج؟

الشبكة العربية لمعلومات وأحداث حقوق الإنسان – اختُتمت في 10 مارس/ آذار 2023 خمسة أيام من المناقشات بين الرياض وطهران بوساطة بكين، وانتهت بالإعلان عن عودة العلاقات الدبلوماسية بين القوتين الإقليميتين، في خطوة صدمت المنطقة بأكملها.

ربما يمثّل هذا التطور تحولًا استراتيجيًا في العلاقة بين البلدين اللذين كانا حتى فترة قريبة يتصارعان بأشكال وأساليب مختلفة، خاصةً بعد انقطاع العلاقات بينهما في أعقاب الهجوم على السفارة السعودية في طهران عام 2016.

إذ يقودان منذ سنوات حروبًا بالوكالة في أماكن مختلفة من المنطقة، ما زاد من حدة التوتر بينهما.

كان التاريخ السياسي بين إيران والمملكة العربية السعودية مضطربًا، بما يشمل تورطهما في اليمن وسوريا، ومحاولتهما للظهور كمركز قوة في المنطقة والسيطرة على مخزون النفط فيها، وتعزيزهما للتطرف الديني في جميع أنحاء المنطقة.

تسبب تذبذب العلاقات بين الرياض وطهران بحالة من الاضطراب المستمر بين المواطنين في كلٍ من إيران والمملكة العربية السعودية، والدول التي يدعمها كلا البلدين.

وكما هو الحال دائمًا، من يقع في مرمى النيران هم أولئك الأبرياء الذين غالبًا ما تُنتهك حقوقهم الإنسانية الأساسية ويقعون ضحايا تجاهل المجتمع الدولي وأمثال هذه الأنظمة القمعية.

في الاتفاقيات الدبلوماسية، عادةً ما يكون ترك السياسات والقضايا مبهمة ودون إجابة أسلوبًا يتعمد فعله السياسيون لترك مجالٍ للتوقعات والمناورة، بهدف تحقيق مصالحهم السياسية والاقتصادية.

وقد تُركت الاتفاقية بين طهران والرياض مبهمة بشكل متعمد، لا سيما فيما يتعلق بقضايا تدخلهما العسكري في اليمن وسوريا، إلا أن هذا الغموض له تداعيات خطيرة على المدنيين الأبرياء الذين لا تؤخذ حقوقهم بعين الاعتبار.

من خلال ترك أفكارهما المتضاربة بشأن الحرب في اليمن وسوريا دون حل، تتعمد كلٌ من طهران والرياض الصمت تجاه القتل العشوائي للمدنيين، وعلى الرغم من اتفاق البلدين على هدنة مدتها ستة أشهر كخطوة لإيجاد حلٍ للحرب في اليمن، إلا أن التفاصيل ما تزال متضاربة بشكل كبير دون تأكيد جازم حول كيفية إيجاد حلٍ فعلي للحرب.

أوضح وزير الخارجية الإيراني “حسين أمير عبد اللهيان” بعد المحادثات أنّ الاتفاقية لا تشمل الصراع في اليمن، مؤكدًا على أن أزمة اليمن هي بالأساس شأن يمني، إلاّ أن هذا يرسم علامة استفهام كبيرة حول تورط البلدين في الصراع ويترك القضية دون حل، وبلا أي إشارات للسلام والتقبل الديني الذي تهدف الاتفاقية إلى تعزيزه.

وبذلك يمكن القول بأن المملكة العربية السعودية وإيران غير مستعدتين إلى حدٍ كبيرٍ لتقليل أو قبول الاختلاف الديني، بل ويستمر كلاهما في استغلال حالاتٍ نشأت من هذا الصراع على أمل تحقيق مصالحهما بتوسيع النفوذ في المنطقة.

بينما تشير الاتفاقية بين البلدين إلى قبول الممارسات الشيعية في السعودية وقبول العقيدة السنية في إيران، هل ينتقل واقع تسامح المذاهب الدينية إلى المواطنين في الداخل والخارج؟

يتبع غالبية سكان المملكة العربية السعودية المذهب السني من الإسلام، بينما تتبع إيران المذهب الشيعي، وقد خاض البلدان فترة طويلة من الصراع بسبب اختلافاتهما الدينية وسعي كلٍ منهما للترويج لمذهبه في المنطقة.

قد يكون من المحيّر حقًا الاعتقاد بأن عقودًا من التوترات الدينية ستختفي باتفاقيةٍ واحدة. ربما وقعت طهران والرياض اتفاقيةً “لحماية الأمن والسلام” في المنطقة، لكن ستستمر الحياة بأن تكون غير عادلة وغير متكافئة وغير آمنة بالنسبة للمواطنين في كلا البلدين.

ساد التوجه نحو التقبل الديني منطقة الشرق الأوسط على مدار العقد الماضي، ومع ذلك لم يتغير المجتمع كثيرًا وما زال الوضع على أرض الواقع مختلفًا تمامًا.

يمكن القول إنّ هذه الاتفاقية قد تكون بالفعل أداةً لإيهام المجتمع الدولي بأن كلًا من إيران والمملكة العربية السعودية منفتحان على المُثُل الدينية المختلفة، حيث يقدمان صورة نموذجية بأنهما يحترمان الأقليات والطوائف الإسلامية الأخرى.

في حين أن السُنّة هم أكبر أقلية موجودة في إيران ويشكلون حوالي 10% من السكان، إلا أنهم ما يزالون مهمشين ومقيدين ومستبعدين إلى حد كبير من المشاركة في المؤسسات المدنية والسياسية.

ينحدر معظم السُنّة في إيران من أصول بلوشية وتركمانية وعربية وكردية، ويهدد النظام الإيراني حقوقهم بشكل كبير، حيث تفاقم القلق بشأن تهميش السنة منذ استلام الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” الذي شدد القيود على الأقلية السنية، مما زاد من صعوبة الحياة لديهم.

الحرمان السياسي هو الواقع اليومي الذي يجب على السُنّة في إيران التعامل معه، إذ يُحرمون من تولي مناصب حكومية رفيعة مثل أعضاء مجلس صيانة الدستور أو مجلس خبراء القيادة الإيرانية أو مجلس النقد والائتمان (MCC).

12 من أصل 277 عضوًا في مجلس خبراء القيادة الإيرانية هم من السنة، ويمثل السنة 6% فقط من أعضاء البرلمان المنتخبين، وينعكس ذلك سلبًا على تمثيلهم في منظومة الحكم والتشريع في البلاد.

تنص المادة 12 من الدستور الإيراني على أن الدين الرسمي في البلاد هو الإسلام وأن السُنّة لهم الحرية في أداء الشعائر الدينية التي يختارونها دون تدخل.

ولكن تمامًا مثل الاتفاقية بين السعودية وإيران، ليس هذا هو الواقع، حيث يُعامل السنة في بلادهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية.

تصاعدت التوترات بشكل أكبر في البلاد في 16 سبتمبر/ أيلول 2022 بعد مقتل الشابة الكردية “مهسا أميني” 22 عامًا، حيث انتشرت الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد ذلك اليوم، وأدّى ذلك لتعرض المناطق السنية لأكبر موجة قمع من النظام الإيراني.

وكانت مدينة زاهدان ومدينة مهاباد الكردية – موطن للسُنّة بشكل أساسي – الأكثر عرضةً لبطش النظام الذي تزايد منذ بدء الاحتجاجات.

وفق منظمة العفو الدولية، قُتل 66 مدنيًا في مدن زاهدان وسيستان وبلوشستان على يد الشرطة المحلية، حيث وُصِف هذا اليوم بـ”الجمعة الدامية” باعتباره اليوم الأكثر دمويةً منذ بداية احتجاجات “مهسا أميني”.

ما يزال التمييز والحرمان من الحقوق وعدم الاكتراث للحياة الإنسانية توجهًا مثيرًا للقلق في جميع أنحاء المقاطعات السنية في إيران منذ بداية الثورة الإيرانية عام 1979، ولذلك لن يكون هناك أمل في الوصول إلى نتيجة مرضية في مباحثات السلام بين إيران والدول المجاورة إلا بعد معالجة هذا التمييز المدعوم من الدولة.

يشكل السكان الشيعة حوالي 12% من إجمالي السكان في المملكة العربية السعودية، ويقيمون بشكل أساسي في المنطقة الشرقية من البلاد، ويعانون تاريخًا طويلًا من القمع على يد العائلة المالكة.

تمامًا كالسُنة في إيران، لا يستطيع الشيعة ممارسة نفس الحقوق التي يتمتع بها أقرانهم السنة في المملكة العربية السعودية، مثل الحق في شغل مناصب في الحرس الوطني السعودي والوزارات الحكومية والديوان الملكي.

ولذلك، ستستمر الانتهاكات ذات الدوافع الدينية طالما بقي السكان الشيعة دون تمثيلٍ كافٍ في الهيئات الحكومية.

تستهدف قوات الأمن المجتمع الشيعي في السعودية بشكل مستمر، وغالبًا ما يخضعون لمحاكمات غير عادلة تودي بهم إلى السجن أو الإعدام.

فليس من النادر رؤية رجال الدين الشيعة أو النشطاء يُحكم عليهم بالإعدام أو بعقوبات قاسية بسبب انتمائهم الديني ونشاطهم، ويواجه السجناء الشيعة في كثير من الأحيان معاملة أقسى من السجناء السنة.

أولئك الذين يختارون رفع أصواتهم ضد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان يتعرضون للاضطهاد والسجن على الفور.

حيث أُعدم رجل الدين الشيعي الشهير والناقد لآل سعود “نمر النمر” في عام 2016، جنبًا إلى جنب مع 47 ناشطًا شيعيًا بتهمة فضفاضة تتعلق بالإرهاب.

لا يستطيع الكثير من السكان الشيعة في المدن الشرقية مثل الدمّام ممارسة الشعائر في أماكن عبادتهم بسبب عدم قدرتهم على الحصول على تصاريح لفتح مساجد شيعية، فضلًا عن منعهم من الاستفادة اقتصاديًا من احتياطي النفط الكبير في المنطقة الشرقية، كما تعد الاحتفالات الشيعية السنوية -غالبًا ما تكون عاشوراء- أرضًا خصبةً لقمع الحكومة.

يترسخ قمع الطوائف الإسلامية المختلفة في النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية لعام 1992، والذي ينص على أن الحرية الدينية غير مكفولة بموجب القانون.

ويدرس الطلاب في جميع المراحل التعليمية بالمملكة وفقًا للتعاليم الإسلامية السنية، وتحديدًا المذهب الحنبلي.

ليست هذه الاتفاقية أداةً جديدةً تستخدمها حكومة المملكة العربية السعودية، بل كان هناك عدد كبير منها على مدى العامين الماضيين.

حيث عملت المملكة العربية السعودية بلا كلل لتعزيز صورتها الدولية من خلال الحفلات الموسيقية والفعاليات الرياضية والعروض الثقافية التي كانت جميعها تعمل على صرف الانتباه عن واقع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تحدث في البلاد بشكل يومي وما زالت تحدث.

تهدف الاتفاقية بين البلدين إلى حرف المجتمع الدولي عن القضايا الحقيقية الموجودة في كلا البلدين من خلال خلق صورة من التعاون والقبول، ويمكن اعتبارها مجرد خطوة قوة ناعمة لتعزيز مصداقية كل من إيران والمملكة العربية السعودية في أعين الغرب.

بالنسبة لإيران، تعتبر هذه الاتفاقية بمثابة أداة استراتيجية للابتعاد عن السمعة الراديكالية التي تلحق بها، وتحسين صورتها من حيث التعاون والحداثة.

أما بالنسبة للمملكة العربية السعودية، فتمثل فرصةً لانتشال نفسها من حرب اليمن عبر الانخراط في محادثات السلام ووقف إطلاق النار.

تبعث هذه الأهداف على القلق، إذ ما تزال الأقليات في كلا البلدين تتعرض للاضطهاد بشكل يومي، وتُحرم من حرياتها الإنسانية الأساسية، خاصةً الحق في حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية.

لا ينبغي أن يتشتت المجتمع الدولي بالاتفاقيات السياسية الساحرة، بل يجب أن تكون اتفاقيات التطبيع هذه بمثابة نقطة انطلاق لتفقد الواقع الحقيقي لمستويات المعيشة في البلاد.

إذا استمر المجتمع الدولي في تجاهل هذه العلامات الواضحة، ستستمر الأقليات الدينية بالتعرض للاضطهاد على أيدي الأنظمة الوحشية والساسة المتعصبين.

في نهاية المطاف، لا يستفيد المواطنون من هذه الاتفاقيات السياسية الكبيرة، وبدلًا من ذلك يستمرون في التعرض للأذى في الملعب السياسي الذي وُضعوا فيه قسرًا.

ما يزال الطريق إلى السلام الدائم والتقبل الديني بين إيران والمملكة العربية السعودية طويلًا وعالقًا، ولكي يُطبّق جوهر التطبيع بفعالية.

يجب على كلٍ من إيران والمملكة العربية السعودية معالجة قضاياهما المجتمعية الأساسية محليًا قبل محاولة إنشاء واجهة دولية هدفها التستر على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

قد يعجبك ايضا