ترامب يكرس المنطق المعكوس بفرضه عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية
واشنطن- أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، قبل أيام في خطوة غير مسبوقة، إدراج كل من المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، ومسؤولاً آخر في المحكمة على لائحة العقوبات الأميركية.
وفي العادة يدرج على تلك اللائحة المتهمون أو الذين أثبت أنهم ارتكبوا جرائم حرب وفساد، وليس هؤلاء الذين يحاولون مقاضاة مرتكبي جرائم الحرب وتحقيق العدالة.
وإن كان المنطق المعكوس للأمور ليس غريباً على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وحتى إدارات سابقة، إلا أن الخطوة لها تبعات مهمة، وقد يكون لتوقيتها أهمية لا يستهان بها تتخطى الانتخابات الأميركية المقبلة، في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وستؤثر على قرارات الإدارة المقبلة، حتى لو فاز المرشح الديمقراطي جو بايدن.
بداية لا بد من وضع الخطوة في سياقها الأميركي العام، فهي تأتي لتفعيل الأمر التنفيذي الشامل الذي صدر عن ترامب في يونيو/حزيران الماضي بهذا الصدد، والذي أعلن فيه حالة طوارئ وأجاز تجميد الأصول وفرض حظر سفر ضد بعض مسؤولي المحكمة.
ولكن حتى إعلان بومبيو الأخير، في الثاني من سبتمبر/أيلول الحالي، لم تُتخذ خطوات فعلية لتنفيذ ذلك القرار. وكانت الإدارة الأميركية قد هددت في أكثر من مناسبة بعرقلة التحقيقات التي تنظر فيها المحكمة حالياً، والمتعلقة بانتهاكات ارتكبت في فلسطين، وأفغانستان. وقد ألغت الولايات المتحدة فعلياً تأشيرة بنسودا في عام 2019.
ووصفت المديرة المساعدة لبرنامج العدالة الدولية في منظمة “هيومن رايتس ووتش” ليز إيفنسون القرار الأميركي بأنه يأتي في سياق محاولات مستمرة لإدارة ترامب لمحاربة جهود المحكمة الدولية في النظر بجرائم حرب مزعومة ارتكبت في أفغانستان وفلسطين، وتأتي بعد عدد من التهديدات باتخاذ إجراء من هذا القبيل، بما فيها الأمر الرئاسي التنفيذي.
ولفتت إيفنسون إلى أول خطاب لجون بولتون، عند توليه مهامه مستشار ترامب للأمن القومي قبل سنتين، والذي أعلن فيه أن الإدارة الأميركية لن تتعاون مع المحكمة بأي شكل من الأشكال، وهدد باتخاذ عدد من الخطوات إن قامت المحكمة بالتحقيق ضد أميركيين أو حلفاء للولايات المتحدة.
وقالت “لقد تغير نهج الولايات المتحدة مع مرور الوقت تجاه المحكمة، فقد كان توجهها عند تأسيس المحكمة، وفي سنوات لاحقة، عدائياً للغاية، ثم بدأت حتى في نهاية إدارة (الرئيس الأسبق) جورج بوش الابن الاعتراف بأنه يمكن للمحكمة أن تلعب دوراً مهماً في مقاضاة مرتكبي جرائم حرب في عدد من الأماكن، كدارفور مثلاً.
وحتى إدارة (الرئيس السابق) باراك أوباما بدت أكثر دعماً لدور المحكمة. لكن ما أراده بولتون وإدارة ترامب عموماً هو إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ومعاداتها بشكل تام”.
لكن اللافت للانتباه في الخطوة الأميركية هو توقيتها، أولاً في ما يخص الانتخابات المقبلة وتبعات هذه الخطوة على الإدارة المقبلة، خصوصاً في حال انتخاب بايدن رئيساً.
ولفهم سياق ذلك يتوجب النظر أولاً لتوقيت الإعلان الأميركي وربطه بما يحدث في المحكمة نفسها على صعيد نظرها في الجرائم المحتملة لأميركيين في أفغانستان وإسرائيليين ضد فلسطينيين.
في ما يخص أفغانستان، تجدر الإشارة أولاً إلى أن التحقيق لا يشمل فقط جرائم تعذيب محتملة ارتكبها أميركيون على أراضٍ أفغانية، أو لها علاقة بالصراع، ولكن كذلك جرائم محتملة لحركة “طالبان” ولقوات تابعة للجيش الأفغاني.
وقالت إيفنسون حول المحكمة “حصلت المدعية العامة في مارس/آذار الماضي على ضوء أخضر يسمح لها بالبدء بإجراء تلك التحقيقات.
لكن المحكمة أوقفت عملها، بشكل مؤقت، لعدد من الأسباب، أهمها النظر بطلب من الحكومة الأفغانية مفاده بأنها ستقوم بالتحقيق، ومحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المحتملة المرتكبة على أراضيها. وعلى الحكومة الأفغانية تقديم أدلة كافية للمحكمة أنها قادرة على ذلك. وإن لم تقتنع المحكمة بذلك فتستمر بتحقيقها.
وهذا يعني أن التحقيق من قبل المحكمة الجنائية فيما يخص أفغانستان تم إيقافه إلى أن يتم اتخاذ قرار حول الطلب الأفغاني.
ولفهم الطلب الأفغاني يجب النظر إلى سياق عمل المحكمة الجنائية الدولية. وفي كلمته خلال المؤتمر الصحافي في واشنطن، وإعلانه فرض العقوبات، أشار بومبيو إلى أن الولايات المتحدة ليست طرفاً في نظام روما الأساسي للمحكمة. وخلص إلى أنه لا توجد للمحكمة سلطة على مواطني الدول غير الأعضاء فيها، إلا إذا صدر قرار من مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة بخصوص قضية بعينها.
ما لم يذكره بومبيو هو أن أفغانستان دولة عضو في المحكمة، وهذا يعطي المحكمة سلطة التحقيق والملاحقة القضائية لأي شخص متهم بارتكاب جرائم حرب على الأراضي الأفغانية أو مرتبطة بالنزاع. وفي العودة لطلب الحكومة الأفغانية، فإن صلاحية المحكمة قائمة فقط كـ”ملاذ أخير”، أي عندما ترى أن السلطة الوطنية لم تقم بأي تحقيقات حقيقية في الجرائم المحتملة.
ولأن المحكمة فتحت التحقيق في مارس الماضي، بعد النظر في قضية ما إذا كان يحق لها البدء بذلك لمدة عامين، فإنه يتوجب على الحكومة الأفغانية تقديم الأدلة بأنه يمكنها إجراء تلك التحقيقات بشكل نزيه وحقيقي.
مهما يكن من نتيجة ذلك، فإن التحقيق نفسه من قبل المحكمة ضد جرائم محتملة مرتكبة في أفغانستان، من قبل أميركيين وغير أميركيين، مُجمّد حالياً، ما يعني أنه لم تكن هناك نظرياً حاجة ملحة لتفعيل الأمر الرئاسي الأميركي وفرض تلك العقوبات.
ويمكن فهم قرار تفعيله على أكثر من صعيد. أولاً هو تهديد مباشر لعمل المدعية ولأي أطراف تقوم بمساعدتها وللعاملين في هذا التحقيق. وتشير إيفنسون إلى أن “التهديدات الأميركية، بما فيها العقوبات الأخيرة، موجهة من أجل ترهيب مسؤولي المحكمة والموظفين المشاركين في التحقيقات وعرقلة عملها، ووقف أو تجميد التعاون معها من قبل آخرين”.
ولفتت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الانتباه كذلك إلى أن “الأمر يُجيز فرض عقوبات على الأشخاص غير الأميركيين الذين يساعدون في التحقيقات التي تعترض عليها الإدارة الأميركية”.
وحول تأثير تلك العقوبات ليس فقط على بنسودا وعاملين في المحكمة، بل كذلك على آخرين، أوضحت المنظمة أن “هذه العقوبات تؤثر بشدة على المستهدفين، الذين لا يُمنَعون من الوصول إلى أصولهم في الولايات المتحدة فحسب، بل يُمنعون أيضاً من التعاملات التجارية والمالية مع أشخاص أميركيين”، بما في ذلك البنوك وشركات أخرى.
كما تؤثر العقوبات الأميركية سلباً على البنوك غير الأميركية، وشركات أخرى خارج الولاية القضائية الأميركية، والتي تخشى فقدان إمكانية الوصول إلى النظام المصرفي الأميركي إذا لم تساعد هذه الأطراف التجارية الولايات المتحدة في تطبيق إجراءات العقوبات بفعالية.
وهذا يحيلنا للنقطة التالية، وهي أنه في حال انتخب جو بايدن، فلن يكون من السهل بالنسبة له التراجع عن هذه الخطوة، لأنه حتى ولو كانت إدارات سابقة، قد أصبحت أقل عدائية مع المحكمة، ورحبت بدورها في ملاحقة ومقاضاة مجرمي حرب حول العالم، فإن ذلك الترحيب اقتصر على مجرمي الحرب الذين ليسوا/ أو لم يعودوا حلفاء لواشنطن أو ليسوا أميركيين.
وحتى إن قبلت المحكمة الجنائية بطلب الحكومة الأفغانية، وأوكلت لها التحقيق بالجرائم المرتكبة على أراضيها، ما سيوقف محاكمة الأميركيين أمام المحكمة الجنائية، فإن الحلقة الباقية هي حليف الولايات المتحدة الأهم: إسرائيل وجرائمها. ما يعني أن إدارة ترامب تفرض الأمر الواقع على أي إدارة مقبلة، في حال لم تفز هي بالانتخابات، بعدم التراجع عن تلك العقوبات، لأن ذلك سيجعلها تظهر بمنظر المتخلي عن حلفائها.
ومن الضروري كذلك النظر إلى هذا الأمر ضمن هجوم أوسع من قبل إدارة ترامب على نظام التعددية الدولية والمنظمات الدولية، بما فيها منظمات الأمم المتحدة، وتقزيم أي دور فعال لتلك المنظمات لا يتماشى مع نظرة ومصالح إدارة ترامب الضيقة التي لا تأبه بحقوق الإنسان.
وتهدف هذه الخطوة كذلك إلى ترهيب منظمات دولية أخرى، وبعث إشارة أن يد أميركا يمكن أن تطاول كل من يقف بوجهها، ضاربة عرض الحائط بأي معايير حقوق إنسان أو قانون دولي، على الرغم من أن تلك القوانين والمنظمات، بما فيها الجنائية الدولية، في عملها ونظامها الكثير من الشوائب، إلا أنها تشكل نقطة بداية يمكن الانطلاق منها لخلق عالم أفضل وعادل للجميع. ما تريده إدارة ترامب هو تحطيم حتى تلك الانطلاقة المتواضعة.