العقوبات الأمريكية على الجنائية الدولية تهدف لنسف أمل العدالة
أكد المستشار القانوني في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان طارق عبد الرازق في تقدير موقف أن العقوبات الأمريكية على المحكمة الجنائية الدولية تهدف لنسف أمل العدالة والإنصاف للضحايا.
وفيما يلي نص تقدير الموقف:
بشكلٍ غير مسبوق فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عبر أمرٍ تنفيذيٍ صادر عن الرئيس دونالد ترامب عقوباتٍ على مسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية، من بينهم المدعية العامة للمحكمة فاتوا بنسودا، تضمنت حظراً للسفر العائلي، وتجميداً لأصولهم وأموالهم في الولايات المتحدة الأمريكية.
القرار الصادر عن ترامب في 11 يونيو/حزيران من هذا العام، جاء إثر إعلان المحكمة الجنائية الدولية في 5 مارس/آذار 2020 عزمها على التحقيق في الجرائم التي وقعت في أفغانستان، وذلك بعد أن وافق قضاة غرفة الاستئناف بالإجماع على طلب المدعية العامة فتح التحقيق في الجرائم الجسيمة التي ارتكبتها طالبان، وقوات الأمن الوطني الأفغاني والجيش الأمريكي وموظفو وكالة الاستخبارات الأمريكية، من إعدامات خارج نطاق القانون، واختفاءٍ قسري، وتعذيبٍ منهجي، فضلاً عن الهجمات الموجهة ضد المدنيين.
قرار المحكمة (الاستئنافي) جاء بعد أن استأنفت المدعية العامة في إبريل/نيسان 2019 القرار الصادر عن الدائرة التمهيدية والذي يقضي برفض فتح التحقيقات بخصوص الحالة في أفغانستان، حيث علّلت الدائرة التمهيدية هذا الرفض آنذاك بأنه لا يصب في “مصلحة العدالة” لصعوبة إجراء التحقيقات في أفغانستان.
وحقيقةً أن الناظر إلى الإجراء الذي اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية، يدرك تماماً أن أمريكا متورطة بالفعل في الجرائم المُرتكبة في أفغانستان، فالعقوبات المفروضة على المحكمة ما هي إلاّ وسيلة ضغط قاسية تسعى من خلالها أمريكا إلى ثني المحكمة عن المضي قدماً في التحقيقات، لإدراكها حجم الجرائم المُرتكبة من قبل قواتها في الأراضي الأفغانية منذ عام 2003.
وعند النظر إلى مضمون القرار الأمريكي، نجد أنه يعلل رفضه لقرار المحكمة لكون الولايات المتحدة الأمريكية ليست طرفاً في نظام روما الأساسي، ولم تقبل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على موظفيها، وبالتالي لا يحق للمحكمة أن تتناول أمريكا وموظفيها من الأساس.
غير أن هذا القول مردود قانوناً، فنظام روما الأساسي جاء واضحاً، وهو أن للمحكمة سلطة التحقيق ومقاضاة الجرائم التي تُرتكب على أراضي دولة عضو في الميثاق – وهي أفغانستان في هذه الحالة والتي تُعد دولة عضو في المحكمة – بغض النظر عن جنسية مرتكب هذه الجرائم سواء كان يتبع لدولة عضو أو غير عضو في المحكمة، وبالتالي فإن فتح التحقيق بحق القوات الأمريكية لا تشوبه أي شائبة قانونية.
المحكمة الجنائية هي محكمة الملاذ الأخير، فهي لا تتدخل إلا في حالة تقاعس السلطات الوطنية عن القيام بالتحقيقات اللازمة لوقف المجرمين مرتكبي الانتهاكات الأشد خطورة، وهو ما حصل بالفعل في حالة أفغانستان والتي تباطأت وتقاعست بشكلٍ متكرر وملحوظ، ما دفع المحكمة الجنائية إلى التدحل وفتح التحقيقات حول الحالة في أفغانستان.
أيضاً لابد من الإشارة إلى نقطة هامة، وهي أن هذه العقوبات المفروضة على المحكمة لن تنسحب على حالة أفغانستان فقط، بل قد تطال كذلك جهود المحكمة فيما يتعلق بحالة الأراضي الفلسطينية، وما يؤكد ذلك أنه عندما أعلنت المحكمة الجنائية في نهاية إبريل/نيسان الماضي على أن للمحكمة صلاحية على الأراضي الفلسطينية المحتلة والتي تشمل الضفة الغربية، قطاع غزة والقدس الشرقية، خرج وزير الخارجية الأمريكية “مايك بومبيو” ليتوعد المحكمة بعواقب إجراءاتها إذا ما استمرت في التحقيقات المتعلق بحالة فلسطين، كما تضمن القرار (الأمر التنفيذي) الصادر عن دونالد ترامب ما يلي: “رغم الدعوات المتكررة من الولايات المتحدة وحلفائنا من أجل الإصلاح، لم تقم المحكمة الجنائية الدولية بشيء لإصلاح نفسها وتواصل القيام بتحقيقات بدافع سياسي ضدنا أو ضد حلفائنا وبينهم إسرائيل”. وهو ما يُفهم منه أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى كذلك لحماية إسرائيل من هذه الإجراءات، وقد تظهر ردة فعل أمريكا بخصوص ذلك من خلال جملة جديدة من العقوبات على المحكمة.
وأخيراً يمكن القول إن هذا الاعتداء الأمريكي على المحكمة الجنائية الدولية ما هو إلا وسيلة لتقويض فكرة السلم والأمن الدوليين التي تنادي بها، خاصةً وأن المحكمة الجنائية الدولية هي المحكمة الوحيدة التي تنظر في الجرائم الأشد خطورة في عالمنا اليوم، ما يعني نسف قواعد العدالة الدولية وإهدار حقوق الآلاف من ضحايا الانتهاكات الخطيرة.