الأورومتوسطي: تبنّي إسرائيل لفكرة “احتلال بلا احتكاك”: نعمة أم كابوس بائس؟
في عالمنا الذي تسيطر فيه الشركات العملاقة على الحياة اليومية للبشر، العديد من التقنيات التي تُبتكر لأغراض معينة تُستخدم في غير محلها بشكل سلبي.
وبالأخص حين توظفها قوة احتلال للحفاظ على سلطتها على المدنيين.
على إحدى نقاط التفتيش في شارع “الشهداء” في مدينة الخليل جنوبي الضفة الغربية المحتلة، نصب الجيش الإسرائيلي سلاحًا لتفريق المحتجين عن بعد يعمل بالذكاء الاصطناعي.
وهو أحد أحدث التقنيات التي أنتجتها شركة “سمارت شوتر” الإسرائيلية، لُيضاف إلى العديد من أسلحة الذكاء الاصطناعي وتقنيات المراقبة المخترقة للخصوصية التي تستخدمها إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين.
وتعزز من خلال هذه التقنيات عنف الدولة الممنهج، وتُمعن أكثر في انتهاك معايير حقوق الإنسان الدولية والإنسانية.
“سمارت شوتر” شركة إسرائيلية تعمل في مجال تطوير أسلحة تستخدم الذكاء الاصطناعي لمعالجة الصور بدقة تحت الشعار المشين “طلقة واحدة، إصابة واحدة”.
وقبل نحو أسبوع، ثبّتت إسرائيل سلاحًا يعمل عن بعد، لديه القدرة على إطلاق قنابل الصوت والغاز المسيل للدموع والرصاص الإسفنجي، عند نقطة تفتيش تستقبل أكثر من 200 فلسطيني يوميًا، بما في ذلك الأطفال وهم في طريقهم إلى المدرسة.
وعلى الرغم من أن السلاح غير مبرمج لإطلاق الرصاص الحي، إلا أنّه ثبت للرصاص الإسفنجي تسببه بإصابات خطيرة عندما استُخدم في أحداث سابقة.
يعمل السلاح الجديد على معالجة الصور استنادًا إلى تقنية الذكاء الاصطناعي، ويستهدف بشكل دقيق الأفراد “المخلّين بالنظام العام”.
وباعتبار أنّ شارع “الشهداء” كان مسرحًا للعديد من التظاهرات والاشتباكات على مر السنين، فمن المرجح أن يؤدي قمع الاضطرابات من خلال تقنية معالجة الصور إلى إلحاق ضرر غير مرغوب فيه بالنساء والأطفال الذين يعبرون نقطة التفتيش؛ نظرًا لهامش الخطأ المرتبط بهذه التقنيات.
ليست هذه المرة الأولى التي تستخدم فيها إسرائيل الفلسطينيين كحقل تجارب لاختبار نماذج أولية من الأسلحة والمعدات التي تعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي قبل تحسينها وتصديرها للخارج.
إذ انخرطت خلال هجوم “حارس الأسوار” على قطاع غزة العام الماضي في “حرب الذكاء الاصطناعي الأولى”، والتي اعتمد فيها جيشها بشكل كبير على “التعلم الآلي” والتقنيات المتقدمة.
في بداية الأمر، ابتكرت الوحدة “8200” في الاستخبارات الإسرائيلية خوارزميات أفرزت برنامجي “ألكيميست” و”جوسبيل” في الطائرات بدون طيار الحربية.
إذ يعتمد البرنامجان على استخدام الاستخبارات البشرية والجغرافية واستخبارات الإشارة لتحديد الأهداف بدقة.
ويقوم تقديم توصيات حول الهدف للجنود والمسؤولين العسكريين. وفي هذا الصدد، يقول مدير الحملات في منظمة “العون الطبي للفلسطينيين”، “روهان تالبوت” إنّ لتوظيف مثل هذه التقنيات الأمنية التنبؤية عواقب لا يمكن تصوّرها على مستويات سرعتها ونطاق عملها وتدخلها”.
تستخدم إسرائيل أيضًا الطائرات بدون طيار لإطلاق الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين، وإطلاق الذخيرة الحية من مسافات بعيدة باستخدام نظام “SMASH Dragon” التابع لشركة “سمارت شوتر”.
إذ يعمل هذا النظام الذي كُشف عن النقاب مؤخرًا على القضاء بدقة عالية على جميع الأهداف الثابتة والمتحركة باستخدام البنادق الهجومية وبنادق القنص والقنابل عيار 40 ملم، وذخائر أخرى.
تعد الأسلحة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي واحدة من بين العديد من الوسائل التكنولوجية المتطورة التي أُدمجت في قدرات الجيش الإسرائيلي لإنشاء ما أطلق عليه المسؤولون الإسرائيليون “المدينة الذكية” واحتلال “بلا احتكاك”.
خلال السنوات الأخيرة، نشرت إسرائيل كاميرات مراقبة مزودة بتقنية التعرف على الوجه في معظم حواجز الطرق في الخليل.
كما نشرت كاميرات مراقبة إضافية لتغطية 95% من الأماكن العامة في القدس الشرقية المحتلة.
ويُعتقد أنّ بعض الكاميرات تلتقط صورًا من داخل منازل الفلسطينيين، ما يجبر بعض النساء على النوم بالحجاب.
ويتسبب ذلك أيضًا بشعور الأطفال بحالة دائمة من عدم الأمان تمنعهم من اللعب خارج بيوتهم، وبذلك تتعدى هذه الأنظمة على خصوصية المدنيين وتقيّد حقّهم في حرية الحركة والتنقل.
يحصل الجنود الإسرائيليون على حوافز لتشجيعهم على التقاط أكبر عدد من صور للمدنيين الفلسطينيين دون موافقتهم.
وذلك ليتم رفعها فيما بعد على قاعدة بيانات تسمى “الذئب الأزرق” ومطابقتها مع الصور الموجودة سابقًا في قاعدة البيانات.
و”الذئب الأزرق” نظام للتعرف على الأوجه يعمل بشكل أوتوماتيكي على مدار الساعة ويستخدم لرصد وتحديد هوية الفلسطينيين من مسافة بعيدة وتنبيه المسؤولين في الجيش الإسرائيلي إلى أي “نشاط مشبوه”.
وبحسب التقارير، يستطيع هذا النظام البحث في أكثر من 100 مليون وجه في غضون ثوانٍ، ويتم تخزين وتأمين المعلومات التي يتم جمعها.
ويُستخدم نظام شبيه بالضفة الغربية باسم “الذئب الأبيض” ويعمل على تخزين بيانات الفلسطينيين وفحص بطاقاتهم الشخصية قبل دخولهم المستوطنات الإسرائيلية للعمل.
لم تكن تقنيات المراقبة المخترقة للخصوصية هذه مفاجئة بعد فضيحة برنامج التجسس “بيغاسوس” الذي طوّرته مجموعة “NSO” الإسرائيلية.
إذ يمكن تثبيت البرنامج عن بُعد على الهاتف المحمول المستهدف باستخدام ما يعرف بهجمات Zero-Click” ” أو “هجمات النقر الصفري”.
ووفق منظمة العفو الدولية، استُخدم برنامج “بيغاسوس” لاستهداف نحو 50 ألف شخص، منهم عدد من النشطاء الحقوقيين والصحافيين الفلسطينيين.
وقد أدى وباء كوفيد-19 إلى تفاقم هذا الوضع، إذ تم إنشاء تطبيق بذريعة الصحة العامة يشترط على المستخدمين الحصول على الأذونات اللازمة للوصول إلى مكالماتهم وصورهم.
وفي الآونة الأخيرة قام مشروع “نمبوس” بتجميع تقنيات المراقبة الإسرائيلية في نظام سحابي شامل يمكن استخدامه للتعرف على الوجه، والتصنيف الآلي للصور.
وهو يقوم بتتبع الأجسام، وتحليل المشاعر. ويعد نظام تحليل المشاعر ويتضمن تقييم المحتوى العاطفي للصور والكلام والكتابة.
وهو يعد أحد أكثر أشكال قدرات الآلات على التعلم إثارة للجدل، حيث وُصف بـ”المخترق للخصوصية والزائف علميًا”.
ومشروع “نمبوس” هو نظام حوسبة سحابية من تطوير شركتي جوجل وأمازون بقيمة 1.2 مليار دولار أمريكي.
هذه القدرة على اكتشاف هويات الأشخاص على نحو واسع دون علمهم لا تنتهك فقط خصوصية المدنيين الفلسطينيين. ولكنها تقيّد حريتهم في الحركة والتجمع والتعبير عن الرأي.
كما تعكس التمييز الممنهج والمتأصل في الاستراتيجيات الإسرائيلية، بالنظر إلى استخدامها فقد لاستهداف الفلسطينيين دون غيرهم وجمع بياناتهم الشخصية.
طورت إسرائيل كذلك تقنيات مراقبة جماعية لاكتشاف التهديدات الجوية مثل نظام منطاد الاستطلاع الجوي الذي يُعد واحدًا من أكبر الأنظمة من نوعه في العالم.
ويُستخدم لرصد واكتشاف التهديدات الجوية من مسافات بعيدة وعلى ارتفاعات عالية ويرسل تحذيرات مبكرة ضدها.
وتشمل الدفاعات الجوية الإسرائيلية أيضًا منظومة “القبة الحديدية” المُصممة لاكتشاف وإسقاط الصواريخ قصيرة المدى والطائرات بدون طيار.
بالإضافة إلى نظام “مقلاع داود” المُصمم لاعتراض الصواريخ الباليستية التكتيكية وصواريخ كروز.
بالإضافة إلى نظام “السهم” المُصمم لاعتراض الصواريخ الباليستية خارج الغلاف الجوي للأرض.
تنتهك استراتيجية الذكاء الاصطناعي الإسرائيلية الجديدة التي ستُنفّذ من خلال إدارة مركزية للذكاء الاصطناعي في الجيش الإسرائيلي التزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي، ولذلك العديد من الأسباب.
باعتبار أنّ إسرائيل قوة احتلال، وصدّقت على اتفاقية جنيف الرابعة، فإنّ لديها التزامات بموجب القانون الدولي الإنساني.
وعلى الرغم من أنّ الاتفاقية لا تشير إلى الذكاء الاصطناعي الحديث وقيوده، إلا أنّ المادة (27) تحدد التزام أي قوة احتلال بحماية المدنيين الخاضعين لاحتلالها من خلال “حق الاحترام لأشخاصهم وشرفهم وحقوقهم العائلية”.
وتؤكد على “معاملتهم في جميع الأوقات معاملة إنسانية (…) دون أي تمييز ضار على أساس العنصر أو الدين أو الآراء السياسية”.
وبالتالي فإنّ الاتفاقية تكفل الحق في الخصوصية، كما أنّ أي قيود ينبغي أن تكون متوافقة مع مبادئ الشرعية والهدف المشروع والضرورة والتناسب.
بموجب المادة (43) من اتفاقية لاهاي، فإنّ من واجب إسرائيل “استعادة وضمان النظام العام والحياة المدنية”.
لكنّ تنفيذ هذا الواجب ينبغي أن يتم بالتوازن مع تنفيذ التزامها بمعاملة السكان معاملة إنسانية وضمان حصولهم على حقوقهم.
وفي هذه الحالة، فإنّ تقنيات المراقبة عالية المستوى التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، وكذلك القيود المفروضة على الحركة، تعملان على تدمير الحياة المدنية والمعاملة الإنسانية للمدنيين القابعين تحت الاحتلال الإسرائيلي.
أمّا فيما يتعلق بالتزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، فقد صدّقت إسرائيل على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
بالتالي فهي ملزمة بتنفيذ المادة (17) منه، والتي تنص على أنه “لا يحوز تعريض أي شخص، على نحو تعسفي أو غير قانوني، لتدخل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته”.
في تفسير سابق، أوضحت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أنه في الوقت الذي لا تتدخل فيه بالضرورة كاميرات المراقبة بحق الأفراد في الخصوصية.
إلّا أنّ التسجيل الممنهج للبيانات –حتى في السياق العام – قد يؤدي إلى اعتبارات تتعلق بالخصوصية. وبالتالي يشكل الجمع والتخزين التلقائي للبيانات الخاصة بالأفراد في الأماكن العامة انتهاكًا لحقهم في الخصوصية.
تزعم إسرائيل أنّ هذه التقنيات الآلية المخترِقة للخصوصية تأتي كجزء من جهودها لتقليل الاحتكاك بين المدنيين الفلسطينيين وجنود الجيش الإسرائيلي، وخطوة إيجابية في طريق الوصول إلى حالة احتلال “بلا احتكاك”.
ولكن في الواقع، لا تدعم هذه التقنيات سوى محاولات إسرائيل الخفيّة والفعّالة لإدامة أنماط راسخة من العنف والسيطرة، وإعفاء نفسها من مسؤولياتها كقوة احتلال، كما هو الحال منذ أن انسحبت من قطاع غزة عام 2005.