التشكيك في اختصاص “الجنائية الدولية” ينذر بتقويض العدالة وترسيخ الإفلات من العقاب
يحذر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان من خطورة المحاولات المستمرة لتغييب المساءلة وتقويض العدالة وترسيخ الإفلات من العقاب التي تقوم بها بعض الدول والمنظمات عبر تقديمها لعشرات المذكرات إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي للطعن والتشكيك في اختصاصها القضائي للنظر والسير في الحالة في فلسطين، وذلك لمنع المحكمة أو عرقلة قدرتها على إصدار أوامر إلقاء قبض على قيادات أمنية وسياسية إسرائيلية، ومنعها بالتالي من السير في إجراءات محاكمتهم ومسائلتهم على خلفية ارتكابهم جرائم ضد الشعب الفلسطيني على الأرض الفلسطينية المحتلة لعام 1967، وبخاصة الجرائم التي يتم ارتكابها في قطاع غزة منذ السابع من تشرين أول/أكتوبر الماضي.
ويعتبر الأورومتوسطي أن هذه التدخلات تمثل تهديدا للسلم والأمن الدوليين، ومن شأنها المس بشرعية المحكمة الجنائية ذاتها وبنزاهتها واستقلاليتها، سعيا لإعلاء المصالح السياسية على اعتبارات تحقيق العدالة الدولية، وحماية الجناة بدلاً من الضحايا، ما سيؤدي إلى مأسسة الإفلات من العقاب وإنكار الضحايا لحقهم في العدالة والإنصاف على كافة المستويات، وبخاصة المستوى الدولي.
ويحذر الأورومتوسطي أن هذه التدخلات والتعاطي معها يشكل تواطؤا واضحا وصريحا مع إسرائيل في استمرار انتهاكها لحقوق الشعب الفلسطيني، وتأمين الغطاء لها للمضي قدما ودون الخشية من أي عقاب في ارتكاب الجرائم الخطيرة ضدهم، بما في جريمة الإبادة الجماعية المستمرة في القطاع للشهر العاشر في قطاع غزة.
وأشار المرصد إلى أن مسألة إصدار المحكمة الجنائية أوامر إلقاء قبض ضد مسؤولين إسرائيليين متهمين بارتكاب جرائم ضد فلسطينيين، باتت تثير تساؤلات جدية حول قدرة المحكمة في المضي قدمًا في إصدار هذه الأوامر والبدء في محاكمة ومعاقبة المتهمين، من دون خضوعها للضغوطات السياسية الخارجية التي تأخذ أشكالا متعددة، والتي تهدف جميعها إلى تقويض عمل المحكمة وعرقلة إجراءاتها في هذا السياق، مما يهدد سلم العالم وأمنه ورفاهه ويضع مبادئ سيادة القانون والعدالة الدولية برمتها على المحك.
وكان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية “كريم خان” أعلن في 20 أيار/مايو الماضي، أنه قدّم إلى الدائرة التمهيدية الأولى في المحكمة طلبات لإصدار أوامر للقبض على اثنين من كبار المسؤولين الإسرائيليين، وهما رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، ووزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف غالانت”.
وحينها أكد المدعي العام أن هذا الطلب جاء استنادا إلى الأدلة التي قام مكتبه بجمعها وفحصها، التي كونت لديه قناعة بوجود أسباب معقولة للاعتقاد بأن “بنيامين نتنياهو”، و”يوآف غالانت”، يتحملان المسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التالية التي ارتُكبت على أراضي دولة فلسطين (في قطاع غزة) اعتبارا من الثامن من تشرين الأوّل/أكتوبر 2023 على الأقل.
علما أن المحكمة استغرقت أكثر من ست سنوات لتعلن في 3 آذار/مارس 2021 عن فتح التحقيق في الحالة في فلسطين، بعدما أعلنت دولة فلسطين في 1 كانون ثان/يناير 2015 عن قبول اختصاص المحكمة في النظر في الجرائم المرتكبة في الأرض الفلسطينية، وتقديم الإحالة من قبل دولة فلسطين إلى المحكمة للنظر في هذه الجرائم منذ تاريخ 13 حزيران/يونيو 2014.
وفي يونيو/حزيران الماضي، طلبت المملكة المتحدة تقديم إفادة “صديق للمحكمة” إلى الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية للطعن في اختصاص المحكمة وقدرتها على ممارسة ولايتها القضائية على المواطنين الإسرائيليين، بحجة أن فلسطين لا تستطيع ممارسة الولاية القضائية الجنائية على المواطنين الإسرائيليين بموجب اتفاقيات أوسلو، وبالتالي هي لا تستطيع منح المحكمة هذا الاختصاص، أو تفويضها إياه.
وقال الأورومتوسطي إن طلب المملكة المتحدة ما هو إلا وسيلة لمنع مساءلة ومحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية الإسرائيليين. ورغم ذلك، قامت المحكمة بقبوله، وأجلت البت في مسألة إصدار مذكرات إلقاء القبض إلى حين الفصل فيه وفي الطلبات الأخرى التي تدفقت من بعده من قبل أطراف أخرى لتقديم إفادات “أصدقاء المحكمة” فيما يتعلق بهذا الشأن وباختصاص المحكمة بشكل عام.
ويذكر الأورومتوسطي في هذا المعرض ما ورد في الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية يوم الجمعة الموافق19 يوليو/تموز بشأن الآثار القانونية المترتبة على سياسات وممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث أكدت محكمة العدل الدولية بأنه ومن الضروري عند تفسير اتفاقيات أوسلو أن يتم مراعاة المادة 47 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تنص على أن السكان المحميين لا يجوز حرمانهم من حقوقهم الواردة الاتفاقية بموجب أي اتفاق يتم بين سلطات الأراضي المحتلة والقوة المحتلة، وأن اتفاقيات أوسلو لا يمكن فهمها على أنها تنتقص من التزامات إسرائيل بموجب القواعد ذات الصلة للقانون الدولي المطبق في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وعليه، يرى الأورومتوسطي أن رأي محكمة العدل الدولية قد قطع الطريق أمام إسرائيل وحلفائها الذين يسعون بشكل متكرر للتمسك باتفاقيات أوسلو كوسيلة لتبرير الاستمرار في ارتكاب الجرائم ضد الفلسطينيين، وتجنب المساءلة والمحاسبة عن تلك الجرائم.
ويضيف أن المحكمة الجنائية الدولية أعلنت أمس الثلاثاء، عن قبول 70 طلباً للتدخل وتقديم إفادات “أصدقاء المحكمة” بشأن اختصاص المحكمة فيما يخص الحالة في فلسطين، بينما تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية أن غالبية تلك الطلبات تعد “صديقة” لإسرائيل ورافضة لاختصاص المحكمة وإصدارها طلبات أوامر إلقاء القبض، في خطوة من شأنها أن تعطل صدورها وتأخير ذلك لعدة أشهر، فضلا عن زيادة المخاوف باحتمال رفض طلب أوامر القبض من قبل الدائرة التمهيدية للمحكمة.
ومن بين الأطراف التي حصلت على إذن من المحكمة الجنائية بتقديم إفادات داعمة لموقف إسرائيل، كل من ألمانيا التي أعربت عن تشكيكها باختصاص المحكمة ومدى استيفاء شروط مقبولية القضية؛ والولايات المتحدة؛ والأرجنتين؛ والسيناتور الأمريكي “ليندسي غراهام”؛ ونقابة المحامين في إسرائيل؛ والرابطة الدولية للمحامين والحقوقيين اليهود؛ ومجموعة من المنظمات تابعة لإسرائيل أو مؤيدة لها.
وبينما الموعد النهائي لتقديم المذكرات هو السادس من أغسطس/آب، فإن مخاوف التأخير المتوقع تنبع من طول فترة اتخاذ القرار بالنظر إلى العدد الكبير من الإفادات التي سيتعين على الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة مراجعتها، فضلاً عن حقيقة مفادها أنه يجب منح المدعي العام للجنائية الدولية الفرصة للرد على هذه الإفادات.
وأكد المرصد الأورومتوسطي أن تقديم هذا العدد الكبير من الإفادات إلى المحكمة الجنائية لعرقلة أو منع صدور أوامر القبض بحق المسئولين الإسرائيليين ومحاكمتهم ومساءلتهم على خلفية الجرائم المستمرة منذ عقود ضد الفلسطينيين وذلك في خضم جريمة الإبادة الجماعية بحق سكان قطاع غزة، يحمل آثارا قانونية وخيمة تتمثل في تهديد السلم والأمن الدوليين، وتقويض العدالة وترسيخ الافلات من العقاب، ونسف حقيقة أن القانون الدولي ينطبق على جميع الدول والمسؤولين بالتساوي، والتسبب في ضرر جسيم يتعذر تداركه على حقوق الشعب الفلسطيني ولمجمل عملية إقامة العدل على النحو السليم في قضيته المشروعة.
كما أكد على أن محاولات منع وعرقلة الملاحقة والمساءلة، بأي شكل كان، تمثل انتهاكًا صريحًا للالتزامات القانونية التي تتحملها الدول في ضمان المساءلة والمحاكمة ومنع الإفلات من العقاب، استنادا إلى أحكام القانون الدولي والتزامات الدول الأطراف في نظام روما الأساسي. بل ويتعين على جميع الدول البدء بإجراء التحقيقات الجنائيـة في محاكمها الوطنية، استنادًا للولاية القضائية العالمية، وتنفيذا لالتزاماتها القانونية الدولية، وإلقاء القبض على مرتكبي هذه الانتهاكات ومقاضاتهم وفقًا للقوانين الدولية والوطنية ذات الصلة.
كما ويذكر الأورومتوسطي جميع الدول بمسؤولياتها الدولية الأخرى بالامتناع عن التواطؤ أو الاشتراك مع إسرائيل في ارتكاب الجرائم ضد الشعب الفلسطيني، وأن تمتنع عن تقديم أي شكل من أشكال الدعم أو المساعدة لإسرائيل فيما يتعلق بارتكاب هذه الجرائم، بما في ذلك الامتناع عن إقامة علاقات تعاقدية أو تقديم مساعدات في المجالات العسكرية والاستخباراتية والسياسية والقانونية والمالية والإعلامية، وغيرها من المجالات التي قد تساهم في استمرار هذه الجرائم.
وفي الوقت الذي يشيد المرصد الأورومتوسطي بتقديم كل من جنوب أفريقيا، وأيرلندا، وبنغلاديش، وإسبانيا، مذكرات داعمة للمضي في إصدار أوامر القبض بحق المسئولين الإسرائيليين، فإنه يدعو المجتمع الدولي بكافة مكوناته إلى العمل على دعم عمل المحكمة الجنائية في اتجاه إقامة العدالة، باعتباره أقل ما يمكنه فعله، في ظل فشله المستمر في تنفيذ التزاماته الدولية في منع ووقف الجرائم الخطيرة والانتهاكات الجسيمة التي ترتكب ضد الشعب الفلسطيني على مدار 76 عامًا، بما في ذلك جرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الإبادة الجماعية.
ويجدد المرصد دعواته للمحكمة الجنائية الدولية إلى اتخاذ القرارات والإجراءات القانونية وفقًا لنظام روما الأساسي والقواعد الإجرائية وقواعد الإثبات الخاصة بالمحكمة على أسرع وجه ممكن لغايات حماية الشعب الفلسطيني من خطر الهلاك الفعلي، وضمان المساءلة من أجل الـضحايا وحرصًا على السلام والعدل في المنطقة والعالم، ولتفعيل دور المحكمة باعتبارها الجهة القضائية الدولية المختصة والمسؤولة بالدرجة الأولى عن مساءلة ومحاسبة الأفراد جنائيًا ومدنيًا على ما اقترفوه من جرائم خطيرة تمس الإنسانية بأكملها وتهدد السلم والأمن الدوليين، ولإحياء دورها في تحقيق العدالة الجنائية بغض النظر عن هوية الجاني والمجنى عليه، والذي أنشئت من أجله.