هيئة العدالة الانتقالية السورية: فرصة ضائعة لعدالة تركز على الضحايا

في 17 مايو/أيار 2025، أعلنت السلطات الانتقالية السورية عن إصدار مرسومين رئاسيين أسسا هيئتين حكوميتين جديدتين، هما “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية” و”الهيئة الوطنية للمفقودين”. اعتبر البعض هذه الخطوة نقطة تحول محتملة في كشف فظائع الحرب السورية وتحقيق المساءلة، لكن سرعان ما أثار نطاق صلاحيات الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية قلقاً واسعاً، إذ تُظهر الوثائق الرسمية أن ولايتها محدودة بشكل يقلل من مصداقيتها ويُهدد فرص تحقيق عدالة شاملة.

يُذكر أن “الإعلان الدستوري السوري” الصادر في مارس/آذار 2025 كان قد وعد بإنشاء هيئة تضم “آليات فاعلة تشاورية ترتكز على الضحايا، لتحديد سبل المساءلة، والحق في معرفة الحقيقة، وإنصاف الضحايا والناجين”. لكن المرسوم الرئاسي الأخير يقتصر في تعريف جرائم الهيئة على تلك التي ارتكبتها حكومة النظام السوري فقط، مستثنياً بذلك الانتهاكات التي ارتكبتها الجهات غير الحكومية والفصائل المسلحة الأخرى، ما يُعطي انطباعاً بتجزئة العدالة وانحيازها لصالح جهة على حساب أخرى.

إضافة إلى ذلك، لا يتضح في المرسوم كيف سيتم إشراك الضحايا بفعالية في تشكيل عمل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية أو في عملية اتخاذ القرارات، كما لم يُذكر ما إذا كان الضحايا والناجون سيتم تمكينهم من المشاركة أو التعبير عن آرائهم داخل الهيئة.

على صعيد آخر، قُوبل تأسيس “الهيئة الوطنية للمفقودين” بتفاؤل حذر من قبل السوريين والمجتمع الدولي، إذ يُنظر إليها كخطوة مهمة لكشف مصير آلاف المفقودين في الأزمة السورية. غير أن نجاح هذه الهيئة يعتمد بشكل كبير على تبني مبادئ الشفافية، واحترام إطار عمل حقوقي، وضمان مشاركة حقيقية وفعالة للضحايا وأسر المفقودين في عملياتها. من دون ذلك، يصعب لهذه الهيئة أن تلبّي توقعات السوريين وتحقق نتائج ملموسة.

تُبرز الأحداث الأخيرة في سوريا، مع تصاعد خطاب الكراهية والطائفية، مدى الحاجة الملحة إلى عدالة انتقالية شاملة تستوعب كل أطياف الشعب السوري، ولا تقتصر على فئة أو جهة واحدة. إذ تقف الحكومة السورية اليوم عند مفترق طرق حاسم: إما أن تعتمد عملية عدالة حقيقية تركز على الضحايا وتُقر بحقوق جميع الناجين، أو تستمر في إقصاء مكونات المجتمع، ما يزيد من الانقسامات ويُعمّق الجراح الوطنية.

النضال من أجل العدالة في سوريا لم يبدأ اليوم، بل قاده منذ سنوات نشطاء، ومحامون، وناجون وثّقوا الانتهاكات وقدموا الدعم للعائلات الباحثة عن أحبائها، وتفاعلوا مع آليات العدالة الدولية. هؤلاء هم من يُشكّلون القلب النابض لأي عملية عدالة انتقالية ناجحة، ومن الضروري أن تُعطى مشاركتهم حقها كعامل رئيسي لا يمكن تجاوزه أو تجاهله.

ينبغي للسلطات الانتقالية في سوريا أن تستفيد من تجارب التعاون الناجحة بين آليات الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالضحايا، مثل “المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في الجمهورية العربية السورية”، لضمان أن يتم تصميم عملية العدالة الانتقالية وتنفيذها بمشاركة فعلية ومحورية للناجين والمجتمعات المتضررة.

كما يقع على عاتق شركاء سوريا الدوليين مسؤولية دعم هذه المساعي وفق نهج شفاف، شامل، يركز على حقوق الضحايا، ويضمن عدم تهميش أي طرف من أطراف الأزمة السورية. إن هناك فرصة حقيقية لتحقيق عدالة انتقالية تُعزز الوحدة الوطنية والمصالحة، لكن هذه الفرصة قد تضيع إذا استمرت العملية في استبعاد بعض الضحايا أو إهمال مطالبهم المشروعة.

في الختام، تبقى هيئة العدالة الانتقالية في سوريا مشروعًا واعدًا لكنه يواجه تحديات كبيرة قد تقوض فعاليته، وهو ما يستوجب إعادة النظر في ولايته وتوسيع صلاحياته، ليُصبح منصة حقيقية لتحقيق العدالة التي يتطلع إليها السوريون بكل فئاتهم وأطيافهم، ويُمكنهم من خلالها استعادة حقوقهم وكرامتهم بعد سنوات من المعاناة.

قد يعجبك ايضا