نتفليكس وشركات الإنتاج السينمائي والانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الانسان

يُعرّف بعض المختصّين السينما أنّها “إعادة ترتيب الوعي في عقول الجمهور بعد كل حقبة”، وعلى الرغم من أن هذا التعريف محل خلاف، إلا أنه لا يمكن لأحد أن ينكر أن للسينما رسالة تواصل مهمة تشكل صورةً ذهنيةً عن الواقع لدى الأفراد. 

لقد كان لبعض الأفلام السينمائية سببًا في تحولٍ ملفتٍ للأحداث بما يفتح مسارات جديدة لتحقيق العدالة والانتصار للضحايا.

فيلم “الخط الأزرق الرفيع” هو أحد النماذج الشهيرة لهذا الدور. فالفيلم الوثائقي الأمريكي الذي أنتج سنة 1988 تناول قضية رجل اسمه “راندال ديل آدمز”.

كان قد أُدين بقتل أحد رجال الشرطة وحكم عليه بالإعدام، إلا أن إخراج قضيته للضوء عبر هذا الفيلم أعاد فتح القضية ومراجعتها وإطلاق سراحه قبل أيام قليلة من موعد تنفيذ حكم الإعدام بحقه.

على عكس الرسالة التي حملها فيلم “الخيط الأزرق الرفيع” الذي نجح منتجوه بإنقاذ ضحية محتملة، يمكن أيضاً للأفلام السينمائية أن تلعب دوراً بغيضاً بهدر حقوق الضحايا وتعميق مآسيهم.

يحدث ذلك حين يتبنى بعض منتجي الأفلام رواية مرتكبي الانتهاكات والجرائم، وهو أمر يمكن أن يؤدي إلى خلق تعاطف مع مرتكبي الانتهاكات ويحرم الضحايا من أي فرصة لوصول معاناتهم للعالم أو التحرك من أجل وقف الانتهاكات بحقهم وتحقيق العدالة.

مثل هذا الدور السلبي يوجب على شركات الإنتاج السينمائي أن تأخذ بعين الاعتبار أن تغييبها لرواية الضحايا وتغطيتها على مرتكبي الانتهاكات بحقهم، أو حتى الترويج لممارساتهم، لا يجعلها بمنأى عن كونها شريكًا في ارتكاب هذه الانتهاكات، الأمر الذي يفرض عليها بذل العناية الواجبة حتى لا تكون أعمالها سلاحًا بيد الأنظمة المستبدة لتلمع صورتها وتبرير جرائمها.

إحدى الأمثلة على الأدوار السلبية التي يمكن أن تلعبها شركات الإنتاج السينمائي إنتاج وشراء شركة “نتفليكس” حقوق النشر للعديد من الأعمال السينمائية الإسرائيلية التي تبّنت في معظمها الرواية الإسرائيلية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

مسلسل “فوضى”، الذي اشترت الشركة حقوق نشره وتعاقدت مع منتجه للمشاركة في إنتاج جزئه الثالث يروي بشكل محرّف قصة عناصر وحدة إسرائيلية من “المستعربين” تنفّذ عمليات سرية في الضفة الغربية وقطاع غزة لمطاردة أحد قادة التنظيمات الفلسطينية.

يحاول المسلسل أنسنة أفكار وتصرفات الجندي الإسرائيلي من خلال تبرير جميع ممارسات الجيش الإسرائيلي بحجة إعادة الأمن وإحلال السلام أياً كانت حجم المخالفات والانتهاكات للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي التي ترافق تلك الممارسات.

وفي الوقت ذاته يصور المسلسل طريقة تفكير المجتمع الفلسطيني على أنها مصبوبة في قالب واحد وهو الانتقام.

يقدم المسلسل تبريراً فاضحاً لعمليات قتل المدنيين خارج إطار القانون، وقتل الأطفال والنساء في القصف العشوائي والإعدامات الميدانية على الحواجز، ويضع في الوقت ذاته الفلسطينيين في خانة المعتدي والمبادر في الهجوم، ويدّعي أن إسرائيل تلجأ لخرق القوانين من أجل الدفاع عن النفس.

من الأفلام الأخرى التي قدمتها شركة “نتفليكس” فيلم “منتجع غطس البحر الأحمر”، وهو فيلم أُنتج سنة 2019، بطولة الممثل الأمريكي الشهير “كريس إيفانز” الذي يمثل دور عميل في الموساد الإسرائيلي يقود عملية سرية لمساعدة لاجئين إثيوبيين يهود على الهرب من أثيوبيا إلى ملاذٍ آمنٍ في إسرائيل.

قد يكون الفيلم مثيرًا للسخرية بالنسبة للفلسطينيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، إذ يقدّم الفيلم إسرائيل -التي تضطهد الفلسطينيين وتحرمهم من حقوقهم منذ أكثر من 70 عامًا وتتسبب في معاناة 4.7 مليون لاجئ فلسطيني وتمنعهم من العودة- على أنّها الأب الحنون الذي يعمل على احتضان اللاجئين والمضطهدين وحمايتهم.

إلى جانب ذلك، نجد أن بعض الأعمال الفنية التي تعرضها “نتفليكس” قد أُنتجت خصيصًا من أجل الترويج والدعاية لجهاز الموساد الإسرائيلي وتمجيد بطولات عناصره الذين نفذوا عشرات عمليات القتل خارج نطاق القانون، مثل المسلسل الوثائقي “أسرار الموساد” وهو مسلسل دعائي بامتياز للموساد، ومسلسل “الجاسوس” الذي يتناول سيرة الجاسوس “إيلي كوهين” الذي عمل في سوريا، وفيلما “الملاك” و”الجاسوس الذي سقط على الأرض”.

يقول الصحفي “إبراهيم عرب” وهو صحفي أعد رسالة الماجستير الخاصة به بعنوان “السردية الاسرائيلية على منصات الفيديو الرقمية” في مشاركة له على أحد برامج “الجزيرة بودكاست”، أنّ “نتفليكس” تشتري حقوق نشر الأعمال الإسرائيلية لعدة أسباب: “أولًا: الكلفة المتدنية [سواء إنتاجها أو شراء حقوق نشرها]، ثانيًا: جودتها العالية، وثالثًا: المواضيع التي تتطرق لها هذه الأعمال سواء تلك التي تتعلق بالاضطرابات ما بعد الصدمة بعد الحروب أو البحث عن الأبطال [وهي مواضيع ذات إقبال شديد خصوصًا من قبل فئة الشباب]”.

وبغض النظر عن دوافع “نتفليكس”- يصل عدد المشتركين فيها إلى حوالي 135 مليون مشترك حول العالم- لتبني الرواية الإسرائيلية، إلا أن ذلك يساهم في تبيض الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، ويصوّر مرتكبي تلك الجرائم كأبطال، وبالتالي يشجّع إسرائيل على الاستمرار في انتهاكاتها غير القانونية.

إن الترفيه والربح من الإنتاج السينمائي والفني لا يجب أن يكون على حساب حقوق الإنسان، ومعاناة الضحايا الذين لا يملكون من الأمر شيئًا سوى أن يحاولوا بكل طريقة ممكنة أن يوصلوا معاناتهم للعالم من أجل أملٍ ضئيلٍ في تحركٍ لإنصافهم ونجدتهم.

 

اقرأ أيضاً: انخفاض بعدد الانتهاكات ضد الحريات الاعلامية في فلسطين

قد يعجبك ايضا