مقابر جماعية في سوريا يكشفها «حفار القبور» من خلف ستار في محكمة كوبلنز الألمانية
دمشق – في إطار إجراءات التعذيب التي يمارسها النظام في سوريا، أصبحت تفاصيل نقل الجثث من سجون المخابرات معروفة لأول مرة.
وعرفت هذه التفاصيل من خلال شهادة خطيرة لـ»حفار القبور» وهو أحد الشهود عن المقابر الجماعية في محيط مدينة دمشق، والتي ضمت رفات عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف ممن قتلوا في الأفرع الأمنية، وتم دفنهم في مقابر جماعية.
الشهادة مرعبة، ورائحة الجثث التي حملها معه الشاهد الوحيد حسب ما يقول المحامي القائم على هذه القضية ميشال شماس ليست في الملابس، بل في الرأس، هو «أمر لا يطاق، فقد كان حفار القبور يأخذ مئات الجثث وأحيانًا الآلاف في كل يوم إلى المقابر».
على مدى يومين استمعت محكمة كوبلنز الألمانية إلى شهادة رجل – أخفت هويته ووافقت على تغطية وجهه بكمامة، حرصاً على سلامة أهله في سوريا – لمشاهداته حول عشرات الآلاف من جثث المعتقلين التي قامت أجهزة المخابرات السورية بقتلهم ودفنهم في مقابر جماعية في ريف دمشق على مدى أكثر من ست سنوات.
وحول مجريات وقائع هذه الجلسة الهامة في إطار محاكمة عنصرين سابقين من المخابرات السورية متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والتي أثارت الكثير من التساؤلات عن طبيعة تلك المقابر المرعبة وأعداد ضحاياها وأهمية توثيق شهادة حفار القبور في هذه المحكمة.
يقول المحامي المتابع للقضية عن كثب، أنور البني إن الشهادة التي قدمها حفار القبور كانت بمستوى صور قيصر، مع أن الأعداد التي ذكرت كانت أكبر بكثير.
وأوضح البني أن أهمية هذه الشهادة تكمن وراء كشفها حلقة مخفية لمصير الجثث التي كشفت عنها «صور قيصر»، كما أنها تكتسب أهميتها بسبب «كشفها عن الأعداد الضخمة التي تمت تصفيتها في المعتقلات أو في المدن والقرى التي اجتاحتها قطعات جيش النظام الهمجية في داريا والمعضمية وفي دوما والسيدة زينب وصحنايا والحجر الأسود والمخيم.
حيث قتل الكثير من الأطفال والشيوخ والمدنيين، والآن يتوضح لدينا مصير هذه جثث الضحايا» وأضاف «المساحة تتوسع الآن أكثر فأكثر في جبل الجليد الذي لم نكن نرى منه غير رأسه في السابق».
كما يعتبر القائمون على هذه القضية أن شهادة «حفار القبور» تكتسب أهمية خاصة كونها لا تتعلق بالفرع 251 فقط، بل بالمنظومة المتحكمة في سوريا ككل.
وحول أصعب المواقف التي ذكرها «حفار القبور» قال البني إنها «الروائح الهائلة التي كانت تنبعث من البرادات عند فتحها، والناتجة عن تخزين جثث الضحايا لأيام إلى أن يكتمل تحميل وتعبئة البراد بجثث الضحايا.
وأيضاً عندما رأى طفلاً مذبوحاً بين يدي والدته المتوفاة وهو ما جعل الشاهد ينهار عند ذكر هذه الحادثة، إضافة إلى دهس معتقل بالجرافة، وسبق أن انهار الشاهد عند الشرطة بينما كان يؤدي شهادته، ودخل المشفى ثلاثة أيام بسبب ارتفاع هائل بالضغط والسكر».
وعند سؤاله عن الإضافة التي يمكن أن تزيدها هذه الشهادة على ملف انتهاكات النظام السوري، قال المحامي، إن الشهادة هذه تكشف حجم إجرام النظام كله بكل الأفرع الأمنية والجيش والشبيحة المسؤولين عن الفتك بالسوريين، واعتقالهم ثم إخفاء جثثهم وبالتالي أهمية هذه الشاهدة تتعلق بهيكلية النظام السوري من رأسه وحتى أخمص قدميه وتوثيق هذه الجرائم تعود للنظام السوري».
أما بالنسبة للمحكمة فهي تنظر إلى الصورة الأكبر و»أنور رسلان والفرع 251 هما جزء من هذه الآلة الجهنمية وآلة الإجرام الكبيرة وهذا بحد ذاته شيء إيجابي يؤكد مساعينا إلى جعل محكمة كوبلنز كجزء من الملفات التي قدمناها إلى المدعي العام.
وقلبها إلى محاكمة حقيقية لبشار الأسد وزمرة المجرمين الذين يسيطرون على سوريا بقوة إجرامهم بالحديد والنار».
وكانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قد نشرت نهاية أغسطس/ آب الماضي، تقريراً يؤكد أن أعداد المختفين قسراً بلغت 99 ألفاً و479 شخصاً منذ اندلاع الثورة السورية في منتصف آذار/مارس 2011.
وفي تقرير لموقع «ليفانت» حول «المقابر الجماعية» التي أدلى «حفار القبور» بمكانها، حيث حددها بمكانين هما نجها، البعيدة عن دمشق حوالى 15 كم، والقطيفة – التي تُذكر لأول مرة خلال هذه المحاكمة – وتبعد عن دمشق حوالى 35 كم.
وهما أراضٍ عسكرية يُمنع المدنيون من دخولها، وأنهم كمدنيين احتاجوا لمهمة رسمية، وسيارة تستطيع المرور على جميع الحواجز العسكرية بدون توقيفها.
وقال إن جميع الأفرع الأمنية كانت ترسل جثثها إلى هذه الأماكن، عدا فرعين هما الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد، حيث تدفن الجثث في مطار المزة العسكري تحت مدرج الطيران، وفرع المخابرات الجوية تُدفن الجثث داخل الفرع نفسه.
ولا يسمح للعمال المدنيين بالدخول إلى هذين المكانين، بل فقط عاملٌ مدنيٌ واحدٌ يقوم بحفر القبور، وكان هذا العامل صديقاً للشاهد وهو من أخـبره عن الأمر.أما عن حجم المقابر الجماعية في منطقتي نجها والقطيفة.
فقال الشاهد إن مساحة الحفرة الواحدة قد تصل لـ 5000 متر مربع وبعمق يصل لستة أمتار. لا يتم إغلاق الحفرة مرة واحدة وإنما على دفعات، حيث يُردَمُ جزء منها حسب عدد الجثث في الدفعة الواحدة، وهكذا حتى تُردم بالكامل مع استمرار تدفق دفعات الجثث القادمة من الأفرع.
كانوا يُسمّون الحفرة «الخط». بعض الخطوط كانت تمتلئ بعد عشرين عملية دفن وأخرى تحتاج لخمسين أو ستين عملية دفن، وهذا يعتمد على حجم الخط كما أوضح.
«عندما يُفتح باب البراد، وبسبب تراكم الجثث لمدة طويلة داخل البراد تنبعث الرائحة كقنبلة غاز قوية جداً، إذ أنهم يقومون بتكديسها على دفعات ريثما تمتلئ الشاحنة بالكامل» بهذا السبب برر الشاهد عدم قيامه بدفن الجثث القادمة من الأفرع بشكل شخصي.
بل الاكتفاء بالوقوف بعيداً قرابة العشرين متر، ومراقبة العمال وهم يقومون برمي الجثث من البراد إلى الحفرة حتى يصلوا إلى الجثث المكدسة بنهاية البراد، والتي غالباً ما تكون مليئة بالمواد المخاطية نتيجة التحلل أو بالديدان، بسبب انعدام الهواء داخل البراد والتخزين لمدة طويلة».
لكن الشاهد قام بدفن جثث سجن صيدنايا بنفسه مع العمال، وعن هذه الجثث قال «لم تنبعث منها رائحة لأنها جثثٌ حديثة، أخبرنا الضباط بأنهم أعدموا في اليوم نفسه.
غالباً يبدأ الإعدام الساعة الثانية عشرة ليلاً، ويتم الدفن الساعة الرابعة صباحاً، ولكنني رأيتُ آثار الحبل الملتف على رقابهم وآثار التعذيب أيضاً، وعموماً كانوا يأتون مكبلي الأيدي مع أرقام ورموز مكتوبة على ملصقات وُضِعت على جبهات وصدور الجثث، وقد حدث ذات مرة أن أحدهم لم يكن ميتاً بعد بل كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، فأمر الضابط بأن تـمر الجـرافة فـوقه».
وعن الحالة التي سببتها له رؤية هذه المناظر لأعوامٍ طويلة أضاف الشاهد: «سكنت الرائحة في أنوفنا كل هذه السنوات، وكنا نتحسسها حتى لو كنا في منازلنا أو أي مكان آخر، وأما مناظر الجثث فقد كانت كفيلة أن تبقيني بدون طعام أو شراب لعدة أيام متواصلة، وما زالت تزورني ككوابيس وتمنعني من النوم، بل وتسبب لي رُعباً واضطرابات في السكر والضغط دائمين».
وفي سياق هذه الشهادة يروي «إبراهيم» وهو اسم وهمي لمعتقل سابق لدى المخابرات الجوية، لـ»القدس العربي» شهادته عن التعذيب الممنهج في سجون النظام.
فيقول المتحدث «كنت معتقلاً مع 8 أشخاص، في سجون المخابرات الجوية في زنزانة منفردة عرضها نحو متر وطولها حوالي مترين، نتذوق فيها أصناف العذاب، كانوا يتعمدون لدى إطعامنا وجبتين خلال اليوم، قطع السكريات عنا، وهو ما يسمى بالموت البطيء، حتى نحلت جلودنا وأصابنا المرض والقمل والجرب».
ويضيف «من شدة التعذيب هناك من توفي معنا في الزنزانة، أذكر قول السجان لبعض المساعدين: ضبوا هذه الجيفة وضعوها في البراد» لم يكن سبب الوفاة مباشراً بقصد القتل وإنما بقصد التعذيب البطيء والممنهج حسب قوله «فكانت الوفاة كما يتحدثون عنها طبيعية بينما هي تحت تأثير التعذيب وظروف صحية بالغة السوء. حالتنا الصحية السيئة، تدفعنا لطلب المساعدة، فتكون تلك المساعدة بالضرب والعقوبة الشديدة على كل مناطق الجسم وتنتهي غالبا بالموت».
اقرأ أيضاً: الموت في سجون ومعتقلات النظام السوري