واقع الاحتلال الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية في جولة ثالثة
بدأت محكمة العدل الدولية يوم الإثنين الموافق 19 شباط/فبراير 2024 في النظر واتخاذ الإجراءات العلنية بخصوص الطلب الذي أحالته إليها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 30 كانون الأول/ديسمبر 2022 لإصدار رأي استشاري (فتوى) بشأن الآثار القانونية المترتبة على انتهاك إسرائيل المستمرّ لحقوق الشعب الفلسطيني، لا سيما الحق في تقرير المصير، وتحديد أثر هذه الانتهاكات على قانونية الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية منذ العام 1967.
وبحسب ليما بسطامي مديرة الدائرة القانونية في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، يأتي توقيت النظر في هذه الفتوى وسط الظروف الحرجة التي يعيشها الفلسطينيون بأكملهم، والمنحنى الخطير الذي تمر به القضية الفلسطينية برمتها.
ففي ظل تصاعد الانتهاكات الإسرائيلية ضد الوجود الفلسطيني والأرض الفلسطينية، والتي باتت إسرائيل ترتكبها على نحو أشد عمقًا، تأتي جريمة الإبادة الجماعية لتضاف إلى لوائح جرائم إسرائيل الطويلة والتاريخية.
وهي الجريمة التي تنظرها محكمة العدل الدولية ذاتها لكن في إجراءات أخرى منفصلة بموجب دعوى قضائية قامت جمهورية جنوب افريقيا برفعها أمام المحكمة ضد إسرائيل لانتهاكها التزاماتها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، خلال هجومها العسكري الذي تشنه ضد قطاع غزة وسكانه الفلسطينيين منذ السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023.
وقبل الخوض في تفاصيل طلب الفتوى الحالي، التي لربما ستشكّل نتيجتها طفرة قانونية باتجاه تطوير القانون الدولي برمّته، قد يكون من الضروري استعراض بعض المعلومات والحقائق الأساسية ذات الصلة.
أولا: ما هي محكمة العدل الدولية؟ وما هي اختصاصاتها؟ وما مدى إلزامية ما يصدر عنها؟
محكمة العدل الدولية هي الأداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة، تأسست في عام 1945، وتضطلع بدور مزدوج، يتمثل، أولًا، في حل النزاعات القانونية التي تحيلها الدول إليها وفقاً للقانون الدولي والاتفاقيات الدولية (كقضية جنوب افريقيا ضد إسرائيل بخصوص انتهاك الأخيرة لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية).
وثانيًا، في تقديم فتاوى في المسائل القانونية المحالة إليها من أجهزة الأمم المتحدة والوكالات الدولية المخوّلة (كطلب الفتوى الحالي).
وعلى عكس أحكام محكمة العدل الدولية التي تصدرها في نطاق اختصاصها الأول بالفصل في النزاعات بين الدول، فإن الفتاوى الصادرة عنها لا تتمتع بذات الإلزامية القانونية، إلا في حالات محددة لا تشمل الطلب الحالي.
ومع ذلك، يجب الإشارة إلى أن السلطة والمكانة القضائية والدولية للمحكمة، بالإضافة إلى مصداقيتها، منحت الفتاوى التي صدرت عنها وزنًا هامًّا وجديرًا بالاعتبار من قبل المستويات القانونية والحقوقية الدولية والأممية.
كما أن ما يرد في هذه الفتاوى من أحكام تكون منبثقة بالأساس عن القانون الدولي، الملزم بطبيعة الحال، وبالتالي، لا يمكن معه تبرير تصرّف الدول بما يتعارض مع هذه الفتاوى، بدعوى عدم إلزاميتها، باعتبارها تفسّر وتوضح ما هو ملزم أصلا للدول.
وقد أثبتت الفتاوى التي أصدرتها محكمة العدل الدولية أهميتها الكبيرة في تفسير وإيضاح القانون الدولي وتطويره، لا سيما فيما يخص بلورة القانون الدولي العرفي وصياغته.
وتُعتبر هذه الفتاوى آلية مهمة لتحديد المعايير القانونية وتوجيه الدول والمنظمات الدولية في تصرفاتها وسياساتها.
ومنذ تأسيس المحكمة، كان قد صدر عنها 28 فتوى، أبدت فيها رأيها القانوني في مجالات عديدة ونزاعات تاريخية مهمة.
وغالبًا ما اتخذت هذه الفتاوى كمرجع قانوني من قبل هيئات الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، بالإضافة إلى المنظمات الدولية الأخرى، وكذلك على مستوى الدول، وإن كان بدرجة التزام أقل.
ثانيا: ما الفرق بين محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية؟
ليس لمحكمة العدل الدولية أي ولاية قضائية فردية أو جنائية، فهي محكمة مدنية للدول والهيئات الدولية، وتتمتّع باختصاصات الفصل في النزاعات بين الدول والحكم بالتعويضات.
وبالتالي، لا ولاية قضائية لها لملاحقة الأفراد، أو محاكمتهم على تهم جنائية، وإنما يقع هذا الاختصاص على عاتق المحكمة الجنائية الدولية، وهي محكمةٌ مستقلةٌ غير تابعة للأمم المتحدة.
وفلسطين ليست عضوًا في محكمة العدل الدولية باعتبارها ليست دولة عضوًا في الأمم المتحدة، في حين أن فلسطين عضو طرف في المحكمة الجنائية الدولية منذ عام 2015.
ثالثًا: ما هو موضوع طلب الفتوى الحالية بالتحديد؟
أوعزت الجمعية العامة بموجب قرارها A/RES/77/247 والذي تم اعتماده بالأغلبية في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2022، لمحكمة العدل الدولية بإصدار فتوى بشأن المسألتين التاليتين:
أولًا: ما هي الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمرّ لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، واستيطانها وضمّها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها، وعن اعتمادها تشريعاتٍ وتدابير تمييزية في هذا الشأن؟
ثانيًا: كيف تؤثر سياسات إسرائيل وممارساتها المشار إليها في الفقرة السابقة على الوضع القانوني للاحتلال، وما هي الآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة؟
وبقراءة المسألتين معًا، يمكن القول إن محكمة العدل الدولية مطالبة بتحديد الآثار القانونية لانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، إلى جانب البحث في قانونية الاحتلال الإسرائيلي كله، وهذه هي المرة الأولى التي تُطالب فيها هيئة قضائية دولية بالبت في شرعية الاحتلال الإسرائيلي ذاته.
ومن أجل إمكانية البت في هاتين المسألتين، يُشير القرار إلى الحاجة إلى مراجعة مؤشرين أساسيين وفحص مدى قانونيتهما جنبًا إلى جنب. وهما:
المؤشر الأول، “طبيعة” انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي التي تخرجه عن صفته المؤقتة والتزاماته كسلطة قائمة بالاحتلال، لا سيما فيما يتعلق بضم الأرض الفلسطينية بالقوة، والتمييز ضد الفلسطينيين.
أما المؤشر الثاني؛ وهو “المدة الزمنية” للاحتلال الإسرائيلي، حيث إن هذا الاحتلال، وفقًا للقرار، قد طال ولم يعد حالة مؤقتة، بل أصبح وضعا دائمًا واحتلالا إلى الأبد، وهو ما يخرجه عن مشروعيته المقررة وفقا لأحكام القانون الدولي التي نظمت حالة الاحتلال الحربي، باعتباره حالة مؤقتة.
ومما لا شك فيه أن وضع المدة الزمنية للاحتلال الإسرائيلي تحت التدقيق القضائي الدولي ليتحدد على أساسها مدى قانونية هذا الاحتلال، إلى جانب انتهاكاته التي تخرجه عن صفته والتزاماته كسلطة قائمة بالاحتلال، تُعتبر العلامة القانونية الفارقة لهذه الفتوى، والتي قد تُسهم في تطوير القانون الدولي في هذا السياق.
إذ أنه لم يحدد سقفا زمنيا لحالات الاحتلال الحربي، ولم يعالج الحالات التي يتحول فيها الاحتلال الحربي من حالة قانونية إلى حالة غير قانونية، وما هي الأوضاع والحقوق والالتزامات التي تترتب على هذا التحول.
رابعا: لماذا تعد هذه الفتوى مهمة ومختلفة؟
1- على المستوى القانوني:
1- قانون الحق في تقرير المصير: حجر أساس
لطالما أكدت مئات القرارات والتقارير الدولية الصادرة عن مختلف الهيئات والمؤسسات الأممية والدولية على أن السياسات والإجراءات الإسرائيلية، وبخاصة المتعلقة بالقدس والاستيطان وضم أجزاء من الأرض الفلسطينية بحكم الواقع وبحكم القانون، تشكل انتهاكًا لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.
وهذا الحق، بحسب القانون الدولي، هو شرط أساسي للضمان الفعلي لاحترام حقوق الإنسان الفردية والجماعية.
كما وسبق لمحكمة العدل الدولية ذاتها الإقرار بأن إسرائيل تنتهك حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وذلك بموجب فتواها الصادرة في عام 2004 بشأن الجدار الإسرائيلي.
إذ شددت المحكمة آنذاك على أن تشييد هذا الجدار في الأرض الفلسطينية، والنظام المرتبط به، من ضم للأراضي بالقوة، وإنشاء المستوطنات، بما في ذلك في القدس الشرقية، وتفتيت الأرض الفلسطينية، والترحيل القسري للفلسطينيين، ونقل المستوطنين مكانهم، وإحداث تغييرات في التركيبة الديموغرافية للأرض الفلسطينية، هي عوامل تعيق بشدة ممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير، وأن إسرائيل بتنفيذها لتلك السياسات، إنما تنتهك التزامها باحترام وضمان احترام هذا الحق.
أما الآن، وبموجب طلب الفتوى الجديدة، فإن المطلوب من المحكمة يتعدى التدقيق في بعض الانتهاكات الإسرائيلية المحددة بعينها، كفتوى الجدار، بل يتعين على المحكمة الارتكاز على حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير أولا، والانطلاق منه لفحص ما ينتهك ويعيق ممارسته، أي أن جميع الممارسات الإسرائيلية ستكون تحت التدقيق القضائي، من حيث طبيعتها (المؤشر الأول)، وكذلك من حيث ديمومتها ومدتها الزمنية (المؤشر الثاني)، كون أن هذه السياسات أوجدت أمرا واقعا ووضعا دائما لا رجعة فيه، وذلك بعكس ما تدعيه إسرائيل أمام المحافل الدولية باعتبارها إجراءات مؤقتة.
بل أن الحكومة الإسرائيلية كانت قد وافقت قبل يومين فقط بالإجماع على مشروع قرار بعدم الاعتراف بدولة فلسطينية أحادية الجانب، فيما أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” البارحة أن إسرائيل ستحتفظ بالسيطرة الأمنية الكاملة على كامل المنطقة الواقعة غرب الأردن، بما يشمل الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي ذلك أكبر دلالة على أن إسرائيل لا تنوي إنهاء احتلالها للأرض الفلسطينية بالمطلق، أو في أي وقت قريب.
كما أن الارتكاز على حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير في طلب الفتوى، يعني أنه يتعين على المحكمة البتّ في أثر السياسات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني بأكمله، باعتباره شعبا واحدا بمصير واحد.
وبالتالي، فإن المحكمة لن تتناول فقط أوضاع الفلسطينيين القاطنين في الأرض الفلسطينية لعام 1967، بما يشمل قطاع غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، بل سيتعين عليها أيضًا التطرق إلى أوضاع الفلسطينيين القاطنين في أرض فلسطين التاريخية لعام 1948، أي داخل إسرائيل، وحقوقهم ومسألة مساواتهم بالمواطنين اليهود هناك، بالإضافة إلى تناول أوضاع اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة.
وللتفصيل أكثر، يتعين على المحكمة النظر في التشريعات والتدابير الإسرائيلية التي من شأنها التأثير على حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والتمييز ضدهم؛ حيث من الممكن أن تتضمن هذه التشريعات قانون الدولة القومية لعام 2018، وكذلك قانون المواطنة والدخول بتعديلاته.
وكذلك قد تتناول المحكمة التدابير الإسرائيلية التي تخضع بوجبها الفلسطينيين لظروف تمييزية وحقوق منقوصة، ما يشمل حقهم في الحياة، والسكن والبناء، والمعيشة اللائقة، والعمل، والتنمية، والغذاء والماء، والصحة والتعليم، والحركة والتنقل، وفي بناء مجتمعات متصلة ومتواصلة، خصوصا إذا ما قورنت بامتيازات المستوطنين اليهود الإسرائيليين ومنافعهم في الأرض الفلسطينية المحتلة لعام 1967، التي يتمتعون بها سواء بموجب القوانين والسياسات الإسرائيلية التمييزية لصالحهم، أو من حصيلة أعمال النهب والعنف التي يرتكبها هؤلاء ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم، والتي لا تسائلهم دولة الاحتلال على ارتكابها.
بالإضافة إلى ضرورة تناول توسيع نطاق تطبيق القانون الإسرائيلي خارج حدودها ليشمل الضفة الغربية، مما يؤدي إلى حرمان الفلسطينيين بشكل تمييزي من حقوقهم وحرياتهم الأساسية.
كما سيتعين على المحكمة البت في قانونية السياسات الإسرائيلية التي اتخذتها بشأن مدينة القدس، بأكملها؛ شرقا وغربا، والتي انتهكت الوضع الخاص المُقرر للمدينة والحماية المفروضة لها بموجب القانون الدولي.
كما ستطرق المحكمة إلى الحصار غير القانوني الذي فرضته إسرائيل على قطاع غزة والمستمر منذ 17 عاما، كما لن يكون هناك أي مفر منالتطرق إلى الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ضد قطاع غزة وسكانه في عدوانها الأخير، سواء بوصفها جريمة إبادة جماعية أو غيرها من الجرائم، وتأثيرها على حقوق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بشكل خاص.
2- التحرر من أطر القانون الدولي التي رسخت الاحتلال الإسرائيلي في الأرض الفلسطينية
وكما ذكر سابقا، يتعين على محكمة العدل الدولية الآن البتّ في قانونية الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية بشكل شامل في ضوء طبيعة انتهاكاته وديمومته.
فالأرض الفلسطينية المحتلة لعام 1967 تخضع لاحتلال حربي من قبل إسرائيل. ويجمع العالم تقريبا على هذا الموقف حاليا، آخذين بالتوصيف القانوني باعتبار أن إسرائيل هي السلطة القائمة بالاحتلال لهذه الأرض، وبالتالي، فإن القانون الدولي الإنساني هو القانون الواجب التطبيق، إلى جانب القانون الدولي لحقوق الإنسان.
إلا أن احتلال الأراضي في زمن الحرب يشكّل حالة مؤقّتة، بموجب القانوني الدولي الإنساني، ولا يحقّ فيها للسلطة القائمة بالاحتلال القيام بتجريد الدولة الواقعة تحت الاحتلال من دولتها ولا من سيادتها، ولا من أراضيها، كلها أو جزء منها.
وهذا هو ما يميّز حالة الاحتلال القانونية عن حالة الضم غير القانونية، بموجب قواعد القانون الدولي. ولكن، لا يزال إعمال هذه القواعد الدولية غير واضح على مستوى التطبيق الفعلي.
وهنا سيأتي دور محكمة العدل الدولية في تفسير هذه القواعد وبلورتها، وتحديد ما إذا أصبح الاحتلال الإسرائيلي من حالات الاحتلال غير القانونية، بفعل خروجه عن شروط الاحتلال القانوني ومعاييره: التأقيت، وعدم الضم.
وتجدر الإشارة إلى أن محكمة العدل الدولية كانت قد أقرّت في فتواها لعام 2004 بشأن تشييد الجدار، بوضع إسرائيل بصفتها السلطة القائمة بالاحتلال في الأرض الفلسطينية.
ولكن، نظرا إلى التوسّع الكبير في مدى وعمق سيطرة إسرائيل على الأرض الفلسطينية وضمها إليها بحكم الواقع وبحكم القانون، منذ ذلك الحين، وازدياد الأدلّة بأن هذا الاحتلال قد أمسى احتلالا إلى الأبد، بدلالة التصريحات الرسمية للقادة الإسرائيليين، وعدم اتخاذ أية إجراءات حتى شكلية لإنهاء الاحتلال، قد يؤدي بالمحكمة الرجوع إلى الوراء قليلا وإعادة تقييمها فيما إذا كان الوجود الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية لعام 1967، لا يزال احتلالا ولا يزال قانونيا من حيث استيفاؤه لمتطلبات “الضرورة والتناسبية” التي يشترطها قانون مشروعية الحرب، وإلا حكمت المحكمة بعدم قانونية هذا الوجود ككل.
وعليه، قد تخلص المحكمة إلى أن الاحتلال الإسرائيلي لم يعد احتلالا قانونيا، لا بالطبيعة ولا بالمدة، ولا لاعتبارات الضرورة والتناسبية، بل أننا أصبحنا أمام حالة استعمار استيطاني إحلالي، يعمل على ضم الأراضي بالقوة، وعلى نحو دائم.
الأمر الذي يستدعي الاستعانة بأطر قانونية أخرى من القانون الدولي، تحديدا قانون الضم غير القانوني، والاستعمار الاستيطاني، وقانون مشروعية الحرب (Jus ad bellum) الذي يحدد الحالات التي يحظر فيها استخدام القوة ضد الدول وضم الأراضي، عوضا عن تطبيق قانون تنظيم الحرب (Jus in bello) وهو ما يعرف بالقانون الدولي الإنساني، وهو الإطار القانوني الرئيسي الذي لا يزال يُنظم حالة الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، وأصبح أداة لترسيخ هذا الاحتلال بدلا من انهائه.
كما قد تقوم المحكمة بإعادة تعريف الوجود الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية لعام 1967، ليس فقط من حيث المدة والضم، بل بوصفه بالأوصاف القانونية الأكثر دقة للواقع الذي خلفته طبيعة الجرائم المرتكبة ضد حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.
فإن احتكمت المحكمة في حكمها إلى قواعد القانون الدولي فقط، فلن يكون أمامها سوى الاعتراف بوجود حالة مركبة من الجرائم المجتمعة المختبئة خلف غطاء مشروعية الاحتلال الحربي، امتزج فيها الاستعمار والاستيطان والعدوان والضم والإبادة الجماعية والتمييز والفصل العنصري.
وبالحديث عن الفصل العنصري، قد ترى المحكمة في الوجود الإسرائيلي نظاما قائما على فرض الهيمنة على الفلسطينيين جميعا، أينما وجدوا، وتسخّر فيه إسرائيل الاحتلال الحربي كأداة ووسيلة لتحقيق أهدافها في إدامة نظام العزل والتمييز والاضطهاد الذي يعاني منه الفلسطينيين، في مقابل إدامة هيمنة اليهود الإسرائيليين عليهم وعلى حياتهم ومواردهم بشكل منهجي.
وفي هذه الحالة، تكون المحكمة قد انضمّت إلى التيار الحقوقي العالمي الذي تصاعد في الفترة الأخيرة، والذي يصف ممارسات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني بأنها وصلت إلى مستوى جريمة الفصل العنصري (الأبارتهايد).
وذلك كما أوردته تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا) وهيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، والعديد من خبراء القانون الدولي، مثل مايكل لينك وجون دوجارد وريتشارد فولك. ولكن يبقى لقول محكمة العدل الدولية ما إذا كانت إسرائيل مرتكبة جريمة (الأبارتهايد) أهمية خاصة، كونها ستكون المرّة الأولى التي يُبتّ بشأنها صراحة على المستوى القضائي، ومن الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة.
وقد يكون لهذا القول أثر كبير إما في تعزيز موقف فلسطين ومؤسسات المجتمع المدني المحلية والدولية وعملها في هذا الشأن، أو تقويضه.
3- محاولة أخرى في عكس مسار الدول باتجاه دعم تحرر الشعوب عوضا عن حماية المستعمرين
بغض النظر عن النتيجة التي ستخرج بها محكمة العدل الدولية بفتواها، سواء بأفضل سيناريو، بالإقرار بعدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي ككل، واعتباره استعمارا استيطانيا يرتكب جرائم الضم والفصل العنصري، أو بأسوأ سيناريو، وهو المعتاد، والإقرار فقط بعدم قانونية ممارسته وسياساته في الأرض الفلسطينية، يبقى المجتمع الدولي، بدوله ومؤسساته، مسؤولا في جميع الأحوال، وبموجب القانون الدولي، عن العمل على اتخاذ كل الإجراءات لإنهاء الوضع غير القانوني المترتب على وجود هذا الاحتلال في الأرض الفلسطينية، أو إنهاء الوضع غير القانوني المترتب على جرائمه وانتهاكاته.
وبطبيعة الحال، تزداد رقعة مسؤوليات المجتمع الدولي وتشتد، كلما اشتدّت انتهاكات الاحتلال جسامة.
وبالمختصر، تتحمّل الدول، بموجب التزاماتها الدولية العرفية والتعاقدية، بعدم الاعتراف بالأوضاع غير القانونية الناتجة عن انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي، أو وجوده ككل، وبعدم تقديم أي شكل من العون والمساعدة التي تساهم في الإبقاء على هذه الأوضاع القانونية، وبكفالة التزام إسرائيل بالقانون الدولي. فضلا عن التزامهم القانوني بملاحقة المسؤولين الإسرائيليين لانتهاكهم القواعد الآمرة للقانون الدولي (jus cogens)، كالحق في تقرير المصير، وارتكابهم مخالفاتٍ جسيمة للقانون الدولي، وجريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والعمل على مساءلتهم في المحاكم الوطنية التابعة لهذه الدول.
ومن الضروري التشديد هنا على أن النص على الالتزامات القانونية التي تقع على عاتق الدول بمنطوق حكم الفتوى يعد أمرا كاشفا، وليس منشئا لهذه الالتزامات، كونها التزامات (erga omnes)؛ تلتزم الدول بمراعاتها واحترامها، في جميع الأحوال، لمجرّد أنها عضوا في الأسرة الدولية، وبالتالي، عليها احترام قواعد القانون الدولي العرفي، الملزم للجميع، واحترام التزاماتها التعاقدية المترتبة على عاتقها بموجب انضمامها للاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
4- إحراج المحكمة الجنائية الدولية غير المتحرجة من سكوتها الدال على الرضا
لا سلطة لمحكمة العدل الدولية على المحكمة الجنائية الدولية، والعكس صحيح. ولكن قد تدفع مخرجات هذه الفتوى بالمحكمة الجنائية الدولية لتعجيل التحقيق في حالة الأرض الفلسطينية المحتلة، ووقف حالة المماطلة و/أو التهميش بخصوصها، ومحاكمة الجناة الإسرائيليين.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه سبق للمحكمة الجنائية الدولية وأخذت بالفتاوى الصادرة عن محكمة العدل الدولية، سواء فيما يخصّ الحالة الفلسطينية، أو غيرها من المسائل ذات الصلة بالدراسات الأولية والتحقيقات التي تجريها المحكمة الجنائية الدولية، وهذا يعطي فائدة قانونية إضافية لموضوع الفتوى الحالية.
2- سياسيًا ودبلوماسيًا
على الرغم من عدم إلزامية فتاوى محكمة العدل الدولية، إلا أن هذه الفتاوى نجحت في مرّات عديدة في تشكيل ضغوط سياسية دولية على الأطراف المعنية، وعلى هيئات الأمم المتحدة، ما ساهم في فتح الآفاق أمام الحلول القانونية والسياسية لعدة نزاعات دولية.
فعلى سبيل المثال، ما حدث في عام 2019، حين أصدرت محكمة العدل الدولية فتوى مفادها بأن المملكة المتحدة ملزمة بإنهاء سيطرتها الإدارية على جزر شاغوس بأسرع ما يمكن.
وتبع ذلك صدور قرارات من الجمعية العامة تطالب بريطانيا باستكمال إنهاء استعمارها موريشيوس، بما في ذلك جزر شاغوس. وعلى الرغم من أن الحكومة البريطانية ماطلت في حلّ هذه المسألة لأكثر من 60 عاما، وكانت قد رفضت اختصاص محكمة العدل الدولية في النظر والبتّ فيها.
إلا أن بريطانيا وافقت على الدخول في مفاوضاتٍ مع موريشيوس بشأن السيادة على هذه الجزر، بعد كل الزخم القانوني والسياسي الذي حازته هذه المسألة، والذي لعبت الفتوى فيه دورا رئيسيا في تشكيله.
ماذا بعد فتوى أخرى؟
لا شك أن معظم الفلسطينيين غير معنيين بمتابعة المجريات الحاصلة الآن أمام محكمة العدل الدولية في معرض نظرها في موضوع الفتوى الجديدة.
وهذا قد يعزى إلى عدة أسباب، أهمها، فقدان الثقة بالمنظومة الدولية بسبب تعاجزها عن التدخل الفعّال في القضية الفلسطينية بشكل عام، وبشكل خاص، في وقف جريمة كل الجرائم؛ جريمة الإبادة الجماعية، الحاصلة في قطاع غزة.
بالإضافة إلى الشعور بحالة من الخذلان تجاه محكمة العدل الدولية بالذات؛ التي فشلت في محاولة فرض تدابير حاسمة ذات وقع عملي لوقف الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، رغم اعترافها بوجود شبهة انتهاك لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية من قبل إسرائيل، وتفويتها لفرصة تصويب تدابيرها حين طلب منها التحرك مرة أخرى في مواجهة العملية العسكرية الإسرائيلية ضد محافظة رفح.
ويأتي عدم التزام إسرائيل بالتدابير الاحترازية التي فرضتها عليها المحكمة أول مرة، دون مساءلة ومحاسبة، سببا آخرا لينفض الفلسطينيون من مجالسها تماما، مقتنعين بعدم جدوى ما يصدر عنها.
بالإضافة إلى ذلك، كنا قد فشلنا في السابق في استغلال الفتوى الأولى الصادرة عن المحكمة في العام 2004 بشأن تشييد الجدار الإسرائيلي، والتي جاءت نتيجتها من صلب القانون الدولي لصالح الحق الفلسطيني، حين أقرت المحكمة بعدم قانونية الجدار بمساره الحالي، وكذلك النظام المرتبط به، وطالبت إسرائيل بوقف عمليات البناء، وإزالة ما شيّد منه، وتعويض الفلسطينيين عما لحق بهم من أضرار.
كما وطالبت المجتمع الدولي، بما في ذلك مجلس الأمن بإنهاء الوضع غير القانوني الناتج عن إنشائه هو والنظام المرتبط به.
ولكن، وعلى الرغم من فقدان الأمل، فإن هذا لا يعني أبدا أننا قد استسلمنا أمام الأمر الواقع الذي تهيمن فيه إسرائيل على كل شيء، أو أن نتخلى عن نضالنا القانوني، رغم ضآلة تأثيره في هذا النظام العالمي، أو أن نضع جانبا إحدى الأدوات المهمة في مسارنا نحو التحرر والعدالة؛ فالقانون الدولي ومؤسساته إلى جانب إرادة الشعب الفلسطيني، والسعي الذي لا يتوقف وراء الحق، وإنهاء الانقسام، وبناء الذات الفلسطينية، ، والتمسك بالحلول المبنية على الحقوق والقانون، وتبني نهج المقاطعة بشكل رسمي وشعبي شامل؛ كلها عوامل ستؤدي إلى نيل الحرية وإنهاء الاحتلال (الاستعمار) الإسرائيلي لنا ولأرضنا، وممارستنا أخيرا لحقنا في تقرير المصير، على المستوى الداخلي والخارجي.
وهذا مع عدم إغفال أهمية الرأي العام العالمي في دعم عمليات التحرر، كما حدث سابقا في العديد من المحطات التاريخية ذات الصلة. وقد تلعب هذه الفتوى دورًا إيجابيًّا في تحريك الرأي العام العالمي لصالح العدالة، وكذلك في دعم التحركات الوطنية والأممية والدولية الرسمية والحقوقية والشعبية المطالبة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ومقاطعته، ومساءلته على المستويين الجنائي والمدني، بما يشمل محاسبة مرتكبي الجرائم، وإنصاف وتعويض الضحايا الفلسطينيين؛ أي الشعب الفلسطيني بأكمله.