لبنان أمام اختبار العدالة لقتلى الصحافة على أيدي القوات الإسرائيلية
يفتح قرار الحكومة اللبنانية الصادر في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2025 بتكليف وزارة العدل دراسة الخيارات القانونية إزاء الهجمات الإسرائيلية على الصحفيين نافذة جديدة أمام مسار المساءلة الذي تعثر طويلا.
ووصفت منظمة هيومن رايتس ووتش هذا التحرك بأنه فرصة ينبغي اغتنامها، بعد عامين على مقتل المصوّر في وكالة رويترز عصام عبد الله في جنوب لبنان، وسط استمرار الهجمات التي طالت مدنيين وإعلاميين في جبهات متعددة.
وتؤكد تحقيقات هيومن رايتس ووتش أن الضربات التي قتلت عبد الله وأصابت ستة صحفيين آخرين من الجزيرة ورويترز ووكالة فرانس برس شكّلت هجوما متعمدا مفترضا على مدنيين، ما يرقى إلى جريمة حرب.
وخلص تحقيق قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل) إلى أن دبابة إسرائيلية أطلقت قذيفتين عيار 120 ملم على مجموعة كان يمكن التعرف بوضوح على أنهم صحفيون، دون وجود اشتباك حدودي لأكثر من أربعين دقيقة قبل إطلاق النار.
وتشير المعطيات إلى أن الصحفيين ظلوا في موقعهم مدة طويلة، ولم تظهر دلائل على هدف عسكري قريب، بما يعزز فرضية العلم أو وجوب العلم بالطابع المدني للضحايا.
وترى منظمات دولية أن الحادثة لم تكن معزولة. فبحسب مراسلون بلا حدود، قُتل أكثر من مئتي صحفي في غزة خلال الحرب، كثير منهم في ظروف توحي بالتعمد.
كما أفادت لجنة حماية الصحفيين بوقوع هجوم على مركز إعلامي في صنعاء أدى إلى مقتل 31 صحفيا وإعلاميا.
وفي لبنان، وثقت هيومن رايتس ووتش طيفا أوسع من الانتهاكات المنسوبة للجيش الإسرائيلي: استخدام واسع للفوسفور الأبيض فوق مناطق مأهولة، تدمير مدارس ومنشآت مدنية ونهبها، استهداف مسعفين وقوات حفظ سلام، واستخدام أسلحة متفجرة في مناطق مأهولة على نحو يعوق عودة السكان.
وفي المقابل، انتقدت المنظمة حزب الله لعدم اتخاذه احتياطات كافية لحماية المدنيين خلال هجماته عبر الحدود في أواخر 2024.
وقد تجاوزت تداعيات الأعمال القتالية البعد الحقوقي إلى خسائر اقتصادية واجتماعية هائلة. يشير البنك الدولي إلى خسائر قاربت 14 مليار دولار، بينها 6.8 مليارات أضرار مادية بالمباني وحدها، بينما تحولت بلدات وقرى حدودية إلى أنقاض وظل أكثر من 80 ألف شخص نازحين حتى مايو/أيار 2025.
ورغم دخول وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله حيز التنفيذ في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، لقي 103 مدنيين على الأقل مصرعهم في الأشهر العشرة التالية، وفق مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ما يشي بهشاشة الهدوء واستمرار المخاطر.
على الصعيد القضائي، يواجه لبنان معضلة بنيوية: لم يدمج الجرائم الدولية وانتهاكات قوانين الحرب إدماجا كاملا في تشريعاته الوطنية، ما يحد من أدوات الملاحقة المحلية.
وسبق للحكومة في مارس/آذار 2024 أن أعلنت قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالجرائم على الأراضي اللبنانية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قبل أن تتراجع بعد أسابيع.
ويدعو خبراء الأمم المتحدة إلى الإبلاغ والملاحقة عند توافر شبهات بجرائم دولية، التزاما بالقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.
ويوفر تكليف وزارة العدل إطارا أوليا لاستكشاف مسارات متعددة، من بينها:
1. فتح تحقيقات جنائية محلية جدية في الهجمات غير المشروعة، مع ضمان استقلال الادعاء وحماية الشهود والضحايا.
2. الانضمام إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وإيداع إعلان قبول اختصاص المحكمة بأثر رجعي يغطي الفترة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على الأقل.
3. تفعيل الولاية القضائية العالمية في حال تعذر الملاحقة محليا، عبر التعاون مع دول تتيح قوانينها محاكمة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
4. إنشاء آلية وطنية مستقلة لتقصي الحقائق حول الانتهاكات التي طالت الصحفيين والمدنيين، ونشر نتائجها بشفافية وإحالة الملفات إلى القضاء المختص.
5. تعزيز الإطار التشريعي عبر مواءمة قانون العقوبات وقوانين الإجراءات الجزائية مع التعريفات والمعايير الدولية للجرائم الأشد خطورة.
ولا تقتصر استحقاقات العدالة على الجانب الجزائي. فهي تشمل أيضا جبر الضرر للضحايا وذويهم، وتأمين مسارات تعويض ومساءلة إدارية وعسكرية حينما تثبت المسؤولية، وضمانات عدم التكرار عبر مراجعة قواعد الاشتباك وتدريب القوات واحترام حماية الصحفيين كمدنيين يتمتعون بضمانات خاصة أثناء النزاعات.
ويقول باحثون حقوقيون إن مفتاح التحول من الإدانة إلى العدالة يكمن في الإرادة السياسية وسرعة التحرك: تجميد القضايا في اللجان يفقدها قيمتها الرادعة، بينما يبعث التحقيق القضائي الشفاف برسالة واضحة بأن دم الصحفيين والمدنيين ليس مباحا.
ولذا، يظل الرهان على أن يحول القرار الحكومي الأخير الوعود إلى إجراءات ملموسة، وأن يضع السلطات اللبنانية والمجتمع الدولي أمام مسؤولية مشتركة: حماية الحقيقة، وإنصاف الضحايا، وترسيخ مبدأ أن استهداف الإعلام ليس كسرًا لقلم، بل جريمة ضد الحق العام في المعرفة.