أطباء بلا حدود تسرد صدمات نفسية في غزة بحاجة للكثير من العمل
الشبكة العربية لمعلومات وأحداث حقوق الإنسان – تعمل منظمة أطباء بلا حدود وطواقمها وفرقها في قطاع غزة بشكل طاريء منذ بداية الحرب، وباستعار أهوالها شهدت المنظمة شتى المشاكل النفسية بين الأطفال والبالغين بحسب وصفها.
وقد أكدت المنظمة أن طواقمها قدمت في رفح جنوب القطاع، وفي المناطق الوسطى أكثر من 8,800 جلسة دعم نفسي واجتماعي للناس منذ بداية العام.
لم يمضِ وقت طويل على مغادرة دافيد موساردو المعالج النفسي في أطباء بلا حدود من غزة، حيث ساعد السكان على التعامل مع الأعراض النفسية المختلفة التي تواجههم إثر عيشهم في ظروف مروعة وتحت القصف المستمر.
ويسرد موساردو ذكرياته المؤلمة لأشخاص يعيشون وقائع لا تطاق، قائلاً: “في بعض الجلسات، كان نضطر للصراخ حتى يُسمع صوتنا فوق أصوات الطائرات المسيَّرة والقنابل”.
وأضاف المعالج النفسي: “عندما لا يدور قتال في الخارج، كنا نسمع بكاء الأطفال وصراخهم في المستشفى، أطفالٌ أصيبوا بتشوهات أو حروق أو فقدوا والديهم، وآخرون يعانون من نوبات الهلع، فالألم الجسدي يثير فيك جروحًا نفسية عندما يذكرك بقنبلة غيرت حياتك إلى الأبد”.
وأردف دافيد بقوله: “أما الأطفال الأكثر هدوءًا، فينشغلون برسم طائرات مسيَّرة وأخرى حربية. فتجد الحرب في جميع أروقة المستشفى. وتشم رائحة الدم التي لا تطاق. هذه هي الصورة التي تراودني من غزة، لم يسبق أن رأيت مثل الذي رأيته في غزة”.
وتابع مستذكراً: “يشترك جميع المرضى الذين عاينتهم ببعض السمات، فبشرتهم داكنة شبه محترقة لأنهم معرّضون لأشعة الشمس طوال اليوم، وجميعهم فقدوا الوزن لأن الطعام شحيح، كما ابيضّ شعرهم من ضغوط أشهر الحرب هذه”.
واسترسل موساردو قائلا: “تخلو وجوههم من أية تعابير فتعبّر عن الفقد والحزن والاكتئاب الذي يلمّ بهم. هؤلاء أشخاصٌ فقدوا كلّ شيء”.
وذكر دافيد ما أخبره به أحد المرضى الذي قال له: “أفتقد للأشياء الصغيرة. صور أمي التي توفيت منذ سنوات، والكوب الذي اعتدت شرب القهوة به. أفتقد عاداتي اليومية أكثر من منزلي المدمر””.
وقال أن مريض آخر سأله: “لم أتناول كأساً من الماء العذب منذ أشهر. أي حياة هذه؟”.
رأى المعالج المفسي من خلال عمله أننا نحن كبشر نميل إلى سرد تفاصيل الألم والمعاناة اللذين نواجههما. ولكن كيف يمكنك أن يروي شخص قصته المؤلمة لشخص يمر بنفس ظروفه المؤلمة؟
ولهذا السبب، تكمن إحدى أولويات طواقم الدعم النفسي في توفير مساحة آمنة للاستماع للمرضى والأطباء والممرضين الفلسطينيين الذين يعملون من دون توقف منذ أكثر من ثمانية أشهر.
وقال دافيد موساردو: “هنا في إيطاليا، نحذف الصور غير الواضحة أو اللقطات عديمة الفائدة من هواتفنا. في غزة، يحذف الناس صور أفراد الأسرة الذين لقوا حتفهم أثناء القصف، معتقدين أن عدم رؤيتهم سيخفف من معاناتهم”.
وأضاف: “رأيت أناسًا ينهارون عند سماعهم عن أمر إخلاء جديد. بعض الناس غيروا أماكنهم ما لا يقل عن 12 مرة في ثمانية أشهر. سمعت أشخاصًا يقولون، “لن أنقل خيمتي بعد الآن لعل الموت يكون أفضل”.
وتابع موساردو قائلاً: “في غزة، ينجو المرء من الموت ولكن لا مهرب من الصدمات التي تلاحقه باستمرار. لم يبقَ للناس أي شيء ولا حتى أفق للتفكير في المستقبل. فبالنسبة لهم، الألم الأكبر لم يأتِ بعد، فهو لا يكمن في القصف والمعارك والحداد ولكن في عواقب هذا كلّه”.
وبين: “لا يشعر الناس بكثير من الثقة حيال السلام وإعادة الإعمار، بينما تظهر على الأطفال في المستشفى علامات الانتكاس بشكل واضح”.
واختتم دافيد موساردو قائلاً: “رغم أنني غادرت غزة، يبدو الأمر كما لو أنني ما زلت هناك. فما زلت أسمع صراخ الأطفال المحترقين. نحتاج إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار، ومن دون ذلك، سيكون شفاء الجروح النفسية العميقة مستحيلًا”.