كيف استخدم ترامب مشروع قانون الميزانية الأمريكية كسلاح في الخارج؟

بينما استحوذت خطط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاقتصادية على العناوين في الداخل الأمريكي، خاصة ما يتعلق بتقليص برامج الرعاية الصحية وزيادة التفاوت الاقتصادي، غابت إلى حد كبير عن الأضواء قصة أخرى لا تقل خطورة: كيف استغل ترامب مشروع قانون الميزانية الأمريكية كسلاح سياسي واقتصادي في الخارج، في محاولة لتقويض الجهود العالمية الرامية إلى إصلاح النظام الضريبي على الشركات متعددة الجنسيات.

لطالما مثّل التهرب الضريبي الذي تمارسه الشركات الكبرى تحدياً ضخماً للاقتصادات حول العالم، إذ تسمح القواعد الضريبية الحالية للشركات متعددة الجنسيات بتحويل أرباحها إلى ملاذات ضريبية منخفضة الضرائب أو معدومة، ما يكلّف الحكومات تريليونات الدولارات سنوياً.

ووفقاً لقاعدة بيانات «أطلس العالم الخارجي»، تخسر الولايات المتحدة وحدها نحو 11.5% من عائداتها الضريبية المحتملة من أرباح الشركات بسبب هذه الممارسات.

ولمواجهة هذه المشكلة، عملت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) على بلورة اتفاق ضريبي عالمي، يفرض على أكبر شركات العالم حدًا أدنى موحدًا للضريبة بنسبة 15%.

ورغم الانتقادات الموجهة لهذا الاتفاق باعتباره متواضعاً ويشوبه الكثير من الثغرات، فقد التزمت عشرات الحكومات بتطبيقه بدءاً من عام 2024، بهدف كبح نزيف الإيرادات الضريبية وتعزيز العدالة الاقتصادية عالمياً.

غير أن الرئيس ترامب، الذي لطالما رفع شعار «أمريكا أولاً»، اختار مساراً معارضاً تماماً. ففي أول يوم له في البيت الأبيض، انسحبت إدارته من المفاوضات المتعلقة بالاتفاقية الضريبية العالمية، في خطوة اعتبرها مراقبون دليلاً على انحيازه التام لمصالح الشركات الأمريكية العملاقة.

لم يتوقف الأمر عند الانسحاب السياسي، بل انتقل إلى ساحة التشريع. فقد تضمّن مشروع قانون الميزانية الذي أقره مجلس النواب الأمريكي في عهد ترامب، بنداً ينص على فرض ضريبة انتقامية على أي حكومة تُطبّق الحد الأدنى الضريبي البالغ 15% على الشركات الأمريكية.

بمعنى آخر، حاولت إدارة ترامب معاقبة الدول التي تلتزم بالإصلاح الضريبي العالمي، حمايةً لمصالح الشركات الأمريكية التي تستفيد من النظام الضريبي الحالي غير العادل.

وإن كان هذا البند أُلغي قبل التصويت النهائي في مجلس الشيوخ، فإن السبب لم يكن تراجعاً مبدئياً من الإدارة الأمريكية، بل نتيجة صفقة سياسية خلف الكواليس.

إذ توصلت مجموعة السبع، التي تضم أغنى اقتصادات العالم، إلى اتفاق مع الولايات المتحدة يقضي بإعفاء الشركات الأمريكية من الالتزام ببعض جوانب الحد الأدنى للضريبة، مقابل إسقاط البند الانتقامي من مشروع القانون.

جاء هذا الاتفاق بينما كانت الأمم المتحدة تستضيف مؤتمراً لتمويل التنمية المستدامة، حضرته حكومات ومؤسسات مالية ومنظمات غير حكومية، لمناقشة كيفية تمكين الدول، خصوصاً النامية، من تحصيل إيرادات كافية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

وفي إشبيلية، اجتمعت مجموعة من الخبراء لمناقشة إصلاحات ضريبية يمكن أن تغيّر المشهد المالي الدولي وتعيد بعض العدالة إلى النظام الضريبي العالمي.

يرى مراقبون أن استسلام مجموعة السبع أمام الضغوط الأمريكية يلقي الضوء على الأهمية الحاسمة للمفاوضات الجارية بشأن معاهدة الأمم المتحدة للتعاون الضريبي الدولي.

فهذه المعاهدة، إذا أُقرت، يمكن أن تمنح جميع الدول الحق في تصميم نظام ضريبي عادل يضمن لها موارد كافية لاحترام حقوق الإنسان وتحقيق التنمية.

ويتناقض موقف إدارة ترامب بشكل صارخ مع المبادرات التي قادتها دول مثل إسبانيا والبرازيل وجنوب إفريقيا، والتي تطالب بفرض ضرائب أكبر على الأثرياء والشركات متعددة الجنسيات، بهدف تقليص الفجوات الاقتصادية وضمان توزيع أكثر عدلاً للثروة.

ورغم أن حملة ترامب الانتخابية طالما ادعت السعي لإصلاح «اقتصاد مزوّر» يصب في مصلحة النخب، فإن سياساته، بحسب منتقدين، أدت عملياً إلى ضخ مزيد من الأرباح في جيوب الأثرياء وتقويض حقوق الناس، ليس فقط في الولايات المتحدة، بل أيضاً على مستوى العالم.

وسط هذه المعركة المستمرة حول مستقبل النظام الضريبي العالمي، تظل قضية العدالة الضريبية عنصراً محورياً في النقاش حول كيفية تمويل حقوق الإنسان وتحقيق التنمية المستدامة.

ويؤكد خبراء أنه لا ينبغي لأي حكومة، مهما كانت قوتها الاقتصادية أو السياسية، أن تُفرَض إرادتها على العالم على حساب العدالة والحقوق الأساسية للجميع.

قد يعجبك ايضا