شبح كورونا أضحى واقعا وسياسات إسرائيل تتسبب في أزمة مزدوجة في غزة
حذرت الباحثة في مؤسسة إمباكت الدولية لسياسات حقوق الإنسان لورا الحايك من أن شبح جائحة كورونا أضحى واقعا في قطاع غزة في وقت تتسبب سياسات إسرائيل في أزمة مزدوجة في القطاع.
وذكرت الحايك في تقرير نشرته إمباكت، منذ أن ظهرت أولى حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد في مدينة ووهان في الصين في ديسمبر2019 وحتى بداية أغسطس 2020، شهد العالم أجمع –باستثناء قطاع غزة-ارتفاعًا حادًا وسريعًا في أعداد الإصابات بالفيروس إلى جانب نسبة وفيات لا يمكن الإستهانة بها.
ظن البعض أن غزة ستنجو من الوباء العالمي بفعل القيود الصارمة على حركة الخروج والدخول من وإلى القطاع من قبل كل من السلطات الإسرائيلية والمصرية منذ فترة طويلة.
لكن اليوم، أضحى شبح دخول الفيروس للقطاع المحاصر واقعًا لا مفر منه، فقد سجلت وزارة الصحة أولى أربع حالات إصابة بفيروس كوفيد-19 من خارج مراكز الحجر الصحي بالقطاع مساء الإثنين 24 أغسطس 2020، مما سبب حالة من الذعر في القطاع المحاصر ذو القطاع الصحي الهش بفعل ما تعرض وما زال يتعرض له من ضربات بفعل السياسات الإسرائيلية المفروضة عليه منذ سنوات.
بينما تسخّر دول العالم أسلحتها الطبية كافة لاحتواء جائحة كورونا، يقف قطاع غزة المحاصر منذ ما يزيد عن 14 عامًا مكتوف الأيدي أمام كارثة إنسانية تلوح في الأفق، بل أمرًا واقعًا لا يفرضه وباء كورونا وحسب، بل ووابلًا من سياسات التضييق التي تفرضها السلطات الإسرائيلية على القطاع.
بينما يعيش القطاع الصحي في الدول الأكثر تطورًا في العالم عجزًا وفي بعضها انهيارًا نظرًا لتسارع ارتفاع أعداد الإصابات بالفيروس، لطالما كان هذا واقع القطاع الصحي في قطاع غزة لما يزيد عن عقدٍ من الزمن. ففي الوقت الذي يعجز فيه القطاع عن تقديم الخدمات الصحية الأساسية لمواطنيه، كيف له أن يتعامل مع أزمة صحية عجزت كبرى دول العالم عن مواجهتها؟
رقعة جغرافية تُصنًّف ضمن الأكثر اكتظاظًا حول العالم، تبلغ مساحتها 365 مترًا مربعًا ويقطنها حوالي 2 مليون نسمة، تعاني عجزًا مزمنًا في الأدوية والمعدات والطواقم والمرافق الطبية، حتمًا هذا سيتثقل كاهل القطاع الصحي فيها ويضعف قدرته في التعامل بالشكل المطلوب لاحتواء فيروس كوفيد-19.
منع دخول المستلزمات الطبية الأساسية
بينما عانت كثير من دول العالم على مدار الأشهر الأخيرة من نقص في المستلزمات الطبية اللازمة لكبح جماح تفشي فيروس كورونا المستجد، كيف للوضع الصحي أن يبدو في قطاعٍ مستنزف تنقصه أساسيات المعدات الطبية في الوضع الطبيعي؟ لنا أن نجزم بأن القطاع المحاصر يواجه اليوم تحديًا مضاعفًا بمجرد وصول الفيروس له، وأن انهيارًا وشيكًا للقطاع الصحي على الأبواب.
في الوقت الذي كانت فيه نسبة الأدوية المفقودة في مستودعات ومشافي القطاع تصل إلى نحو 16% فقط في عام 2005 قبل فرض الاحتلال الإسرائيلي الحصار الخانق على القطاع، ارتفعت تلك النسبة بشكلٍ كبير لتصل إلى أكثر من 52% في شهر يناير من عام 2020.
وفي الشهر ذاته، بلغ عدد الأسرّة المتوفرة لكل 1000 شخص في القطاع نحو 1.4 فقط، كما يُجبر المرضى ممن يحتاجون للخضوع للعمليات الجراحية الاختيارية للانتظار لفتراتٍ تصل حتى 16 شهرًا، فهل للفيروس سريع الانتشار إمهال مصابين في أمس الحاجة للرعاية الصحية هذا القدر من الوقت؟
استهداف الكادر الطبي
لم تكتف إسرائيل بتضييق الخناق على الفلسطينيين في غزة من خلال إحداث عجز مستمر في المستلزمات الطبية، وإنما وقفت عقبةً في طريق الطواقم الطبية وتطوير مهاراتهم الطبية والمهنية من خلال منعهم من المشاركة في الدورات التوعوية وورشات العمل والمؤتمرات الطبية في الخارج.
فلطالما مُنع معظمهم من مغادرة القطاع سواء بسبب إغلاق معبر رفح على الحدود المصرية لفتراتٍ طويلة أو لرفض السلطات الإسرائيلية منحهم تصاريح للمغادرة عبر معبر “إيرز”، في شكل يبدو كسياسة ممنهجة لزعزعة القطاعات الحيوية في غزة، بما في ذلك القطاع الصحي، وإبقائه في حالة من العجز الدائم.
بالإضافة إلى ذلك، لم تسلم الطواقم الطبية من الاعتداءات الإسرائيلية على “مسيرات العودة” التي بدأت في 30 مارس من العام الماضي، حيث قتلت القوات الإسرائيلية أربعة مسعفين، ثلاثة منهم أثناء تأدية عملهم في الميدان، والآخر متأثراً بجروحه، وأصابت 685 مقدم خدمة طبية، كما ألحقت الضرر بحوالي 120 سيارة إسعاف، جميعهم نتيجة الاستهداف المباشر.
وبالمثل، كانت الطواقم الطبية أحد أهداف الجيش الإسرائيلي في عملياته العسكرية على القطاع المحاصر، فيلقى البعض حتفهم ويتعرض آخرون لإصابة تحول دون تقديمهم الخدمات الطبية مستقبلًا.
على سبيل المثال، بحسب مدير دائرة الإسعاف والطوارئ بجمعية الهلال الأحمر في غزة “بشار مراد”، خلال عملية “الجرف الصامد” التي شنتها القوات الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2014 قُتل اثنان من طواقم الإسعاف وأصيب 35 آخرون.
وبذلك تنجح السلطات الإسرائيلية في خطتها الرامية إلى تدمير القطاع الصحي في قطاع غزة من خلال القضاء على الكفاءات الطبية، أو تعطيلها، أو الحد من كفاءتها على أقل تقدير، وهذا ما سيضع القطاع تحت خطر مضاعف في ظل تفشي فيروس كورونا.
تدمير ممنهج للبنى التحتية
لم تسلم مرافق القطاع الصحي أيضًا من الهجمات الإسرائيلية على القطاع المحاصر، فخلال العملية العسكرية التي نفذتها القوات الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2014 والتي عُرفت بـ “الجُرف الصامد”، تضرر 75 مستشفى وعيادة ومركز للرعاية الصحية الأولية وأصبحوا بحاجة إلى الإصلاح أو الصيانة. ودُمّر بالكامل مستشفى واحد وهو مستشفى (الوفاء) وخمسة مراكز للرعاية الصحية الأولية، بينما لحقت أضرار كبيرة بمستشفيين وخمس عيادات؛ وأصيب 63 مرفقاً من مرافق الرعاية الصحية بأضرارٍ طفيفة.
وفي إحدى الهجمات التي حدثت في 19 يوليو 2014، تعرض مستشفى شهداء الأقصى في وسط غزة لوابلٍ من قذائف الدبابات، مما أسفر عن تدمير غرف العمليات ووحدات أجهزة المحافظة على الحياة في المستشفى، الأمر الذي أعاق بشده قدرته على تقديم الرعاية للمرضى.
وفي حملتها العسكرية على القطاع عام 2012 والتي استمرت لمدة ثمانية أيام، قامت القوات الإسرائيلية بتدمير أو إلحاق ضررًا جزئيًا بـ 16 مشفىً وعيادة طبية بالإضافة إلى 6 من سيارات الإسعاف، كما تم تسجيل إصابة ثلاثة من الطواقم الطبية، بينما في عمليتها العسكرية الشهيرة بـ “الرصاص المصبوب” والتي امتدت من 27 ديسمبر 2008 وحتى 18 يناير 2019، قامت القوات الإسرائيلية بتدمير أو إلحاق ضررًا جزئيًا بـ 58 مشفىً وعيادة طبية، بالإضافة إلى 29 سيارة إسعاف، واستهدفت عددًا من الطواقم الطبية فلقي 16 شخصًا حتفهم، وجُرح 26 آخرين.
فكيف لهذا العدد المحدود من المرافق الصحية في مثل هذه المنطقة المكتظة التعامل مع فيروس بهذه الخطورة؟
أزمة الكهرباء والوقود
تكمن إحدى السياسات الإسرائيلية الرامية لشل القطاع الصحي في غزة في إحداث عجز مستمر في الوقود اللازم لتوليد الكهرباء في القطاع، حيث بدأت هذه الأزمة عندما تعرضت محطة توليد كهرباء غزة للقصف الإسرائيلي في شهر يونيو من عام 2006، حيث لم تعمل المحطة بكامل طاقتها منذ آنذاك.
علاوةً على ذلك، تعرضت محطة التوليد لقصفٍ إسرائيلي آخر في 29 يوليو من عام 2014 خلال عملية “الجرف الصامد” العسكرية التي شنتها القوات الإسرائيلية على القطاع المحاصر، مما أدى إلى توقفها بالكامل، وعليه شل حركة القطاع الصحي، دون إيلاء أي اعتبار للوضع الإنساني للمرضى والمصابين داخل المستشفيات والمراكز الصحية والعيادات، منتهكةً حقهم في الحصول على الرعاية الصحية اللازمة.
لم تكف إسرائيل عن سياساتها في ظل عمليةٍ عسكرية شرسة ضد القطاع، بل استمرت في اتباعها حتى في ظل تفشي فيروس وبائي في هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة المكتظة المحاصرة، حيث تتحين كافة الفرص لمنع إدخال الوقود للقطاع المحاصر، وبالتالي تضع حياة آلاف المرضى على المحك، فلطالما فقد العديد من المرضى حياتهم نتيجة تلك القيود، ولكن كم من المرضى سيفقد القطاع بعدْ في ظل تفشٍ سريع لجائحة كورونا؟ وكم من الوقت بعدْ سوف تستمر السلطات الإسرائيلية في مضاعفة الأزمة على المدنيين المحاصرين في قطاع غزة؟
خلاصة القول، إن لم ترفع إسرائيل قيودها المجحفة عن قطاع غزة، بما فيها سياسات التضييق، وإغلاق المعابر، وعرقلة وصول المستلزمات الطبية والوقود الكافي لتشغيل محطات الكهرباء بالكامل في القطاع، فستكون مسؤولةً عن أزمة تصل إلى كارثةٍ إنسانية حقيقية!