عودة الصحفيين إلى غزة: مشاهد الدمار والبحث عن الأحبة تحت الأنقاض

الأراضي الفلسطينية- في مشهد يعكس المأساة الإنسانية التي خلفتها الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، عاد عشرات الصحفيين إلى منازلهم في شمال القطاع ومدينة غزة، ليجدوا أنفسهم أمام واقع مرير: منازل مدمرة، ذكريات مطمورة تحت الركام، وأحباء فقدوا حياتهم تحت القصف.

يصف مركز حماية الصحفيين الفلسطينيين (PJPC) هذه العودة بأنها “لحظة مؤلمة وحق إنساني”، حيث واجه الصحفيون الذين عادوا إلى ديارهم بعد أشهر طويله من النزوح مشاهد الدمار الشامل، وشرعوا في البحث عن جثث ذويهم بين الأنقاض، في ظل ظروف بالغة القسوة.

بحث عن الشهداء تحت الأنقاض

لم تكن العودة إلى الديار مجرد لحظة فرح للجميع. فمراسل قناة الجزيرة، مؤمن الشرفي، عاد إلى منزله في مخيم جباليا ليبحث بين الحطام عن جثث أفراد عائلته، الذين استشهدوا في ديسمبر 2023 عندما قصفت طائرات الاحتلال منزل عائلته المأهول بالسكان.

قال الشرفي بصوت مكسور لمركز حماية الصحفيين: “لحظات قاسية أعيشها الآن بعد أشهر طويلة على المأساة التي تعرضت لها عائلتي. كل يوم أستيقظ وأتذكرهم، وأتساءل كيف يمكن أن أستمر دون وجودهم بجانبي”.

وأضاف: “أريد أن أكرمهم من خلال دفنهم حتى أتمكن من زيارتهم، لأضع وردة على قبورهم وأقرأ الفاتحة على أرواحهم الطاهرة”.

الشرفي فقد والداه وعدد من إخوته وأبناءهم في القصف، الذي أودى بحياة 21 فردًا من عائلته، ليصبح رمزًا لمعاناة الآلاف من العائلات الفلسطينية التي فقدت أحباءها تحت القصف. لم تكن عائلته الوحيدة التي دُمرت، بل كانت واحدة من بين مئات العائلات التي شهدت دمارًا مماثلًا في غزة، حيث تحولت المنازل إلى ركام والأحياء إلى خرائب.

وأضاف الشرفي: “لم يكن بيتنا مجرد جدران، بل كان ذكريات وأحلامًا بنيناها معًا. اليوم، كل ما تبقى هو الحطام والألم. لكننا لن ننسى، وسنحمل قضيتنا إلى العالم كله”.

لحظات مؤثرة

أما الصحفي محمد شاهين فأحتضن أطفاله الاثنين بعد عودته إلى شمال قطاع غزة، بعد أن حُرم من رؤيتهم لأكثر من 15 شهرًا.

وقف شاهين، الذي ظل طوال هذه الفترة يعمل مراسلًا ميدانيًا في ظروف بالغة الخطورة، بين أحضان أطفاله، في لحظة اختلطت فيها الدموع بالابتسامات.

وقال لمركز حماية الصحفيين الفلسطينيين: “هي لحظة خاصة.. كنت أعد الثواني والدقائق وأنا أنتظر رؤيتهم، خصوصًا أثناء الانتظار على تبة النويري للعودة إلى غزة. كل لحظة كانت تمر كأنها سنة”.

وأضاف شاهين، الذي واجه خلال الحرب مخاطر جمة أثناء تغطيته للأحداث: “خلال أيام الحرب القاسية، كنت أخشى على حياتي، واعتقدت أنني لن أرى عائلتي مجددًا. كنت أعيش في خوف دائم من أن أكون آخر ضحايا هذه الحرب، وأن أترك أطفالي دون أب”.

وتابع شاهين، الذي عانى من انقطاع الاتصال بعائلته لفترات طويلة بسبب انقطاع الإنترنت والاتصالات: “هذه العودة، التي تحققت بعد اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، كانت بمثابة بصيص أمل وسط واقع مليء بالمعاناة. لكن الفرحة لم تكتمل، لأنني أعلم أن آلاف العائلات ما زالت تنتظر لقاء أحبائها”.

منزل محطم وذكريات مطمورة

بينما وقف مصور وكالة “صفا” الصحفي محمد أسعد، مذهولًا أمام أنقاض منزله المدمر، الذي لم يتبقَ منه سوى أكوام من الإسمنت المسلح والأثاث المحطم.

وقال أسعد لمركز حماية الصحفيين: “هنا ذكرياتي وحياتي.. هنا عشت مع أسرتي، هنا كانت أحلامنا تبنى حجرًا حجرًا”.

وأشار إلى أن هذا هو المنزل الثاني الذي يدمره الاحتلال الإسرائيلي له، بعد أن دمر منزله الأول في حي الشجاعية شرق غزة خلال الحرب الإسرائيلية على القطاع عام 2014.

أسعد، الذي وثق عبر عدسته معاناة شعبه خلال الحروب المتتالية، وجد نفسه اليوم أمام كاميرته، يوثق دمار منزله الخاص، في مشهد يعكس حجم الخسائر التي لحقت بالصحفيين الفلسطينيين، الذين أصبحوا ضحايا ومراسلين في آن واحد.

وقال: “أشعر بالمرارة وأنا أقف هنا، بعد أن كنت أصور دمار منازل الآخرين، أصبحت اليوم أمام دمار منزلي. هذا هو ثمن أن نكون صوت الحقيقة في زمن الحرب”.

وأضاف أسعد، الذي فقد كل ما يملك من وثائق شخصية وأرشيف مهني كان يحتفظ به في المنزل: “لم يتبقَ لي سوى كاميرتي، وهي السلاح الوحيد الذي أملكه لمواجهة هذا الظلم”. وتابع: “لكنني لن أتوقف عن العمل، لأن قصتنا يجب أن تروى، ومعاناتنا يجب أن يراها العالم”.

هذه المشاهد ليست جديدة على أسعد، الذي عاش طفولته في حي الشجاعية، وشهد حروبًا متتالية على غزة، لكنه يؤكد أن هذه المرة مختلفة. “الدمار هذه المرة لم يترك شيئًا، لا منازل ولا ذكريات ولا حتى أملًا سريعًا في إعادة البناء”، قالها أسعد وهو يلتقط صورًا لأنقاض منزله، كأنه يحاول أن يجمد اللحظة ليُظهر للعالم حجم الكارثة التي يعيشها شعبه.

وتأتي هذه العودة بعد 15 شهرا من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، التي بدأت يوم 7 أكتوبر 2023، وأسفرت عن دمار شامل في البنية التحتية للمنطقة، فضلًا عن سقوط عشرات الآلاف من الضحايا، بينهم حوالي مائتي صحفي وعامل في مجال الإعلام.

وعودة الصحفيين إلى غزة ليست مجرد عودة جغرافية، بل هي رحلة عبر الذكريات والألم، بحثًا عن بقايا الحياة تحت الركام. في حين تظل هذه العودة بمثابة شهادة حية على صمود الشعب الفلسطيني، فإنها تطرح تساؤلات كبيرة حول مستقبل غزة وحقوق سكانها.

قد يعجبك ايضا