شمال غزة: بين الموت والنزوح
يمكن أن يرقى النزوح القسري إلى جريمة حرب، وينطبق الأمر نفسه على استخدام التجويع سلاحَ حرب. منذ 1 أكتوبر/تشرين الأول، أمر الجيش الإسرائيلي نحو 400 ألف شخص في شمال غزة بمغادرة منازلهم ومنع المساعدات من الوصول إليهم. بذلك، يخاطر الجيش بارتكاب هاتين الجريمتين بشكل متكرر. تستمر العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة منذ أكثر من عام، بعد أن ارتكب مقاتلون بقيادة “حماس” جرائم ضد الإنسانية في جنوب إسرائيل، فقتلوا مئات المدنيين وأخذوا عشرات الرهائن. منذ البداية، قال كبار المسؤولين الإسرائيليين إنهم يحمّلون كل شخص في غزة المسؤولية عن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وأغلقوا معابر غزة، ومنعوا المساعدات، وقطعوا إمدادات الكهرباء ومياه الشرب. تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتحويل قطاع غزة إلى “خراب”.
على مدار عام، وفي انتهاك لثلاثة أوامر مؤقتة من “محكمة العدل الدولية”، سمحت السلطات الإسرائيلية بدخول قدر ضئيل فقط من المساعدات إلى غزة، فأعاقت البعثات الإنسانية، وخاصة إلى شمال غزة، ودمّرت البنية الأساسية المدنية، وقتلت عمال الإغاثة. يكافح الجميع تقريبا في غزة للحصول على الغذاء الكافي، وبالنسبة لنصف مليون شخص، النقص كارثي. قتل سوء التغذية الأطفال، ومعظم المستشفيات لا تعمل، وانتشرت الأمراض المعدية، بما فيها شلل الأطفال.
تقول السلطات الإسرائيلية إنها أصدرت الأوامر الأخيرة بإخلاء الشمال (أربعة أوامر بين 1 و12 أكتوبر/تشرين الأول) لإعطاء المدنيين فرصة للفرار إلى بر الأمان بينما يستهدف الجيش الإسرائيلي حماس. لكن هناك أدلة متزايدة على أن الجيش الإسرائيلي يسعى بشكل غير قانوني إلى إجبار المدنيين على الخروج من شمال غزة، ولا يوجد مكان آمن للذهاب إليه، ولا توجد طريقة آمنة للوصول إلى هناك، ولا توجد خطط مفترضة للسماح لهم بالعودة.
يحظر القانون الدولي الإنساني النقل أو الترحيل القسري للسكان الخاضعين للاحتلال. يسمح استثناء محدود بالإخلاء المؤقت كإجراء أخير، في حالات الضرورة العسكرية الملحة، أو إذا لزم الأمر لحماية المدنيين المعنيين. لكن هذا يتطلب من الجيش الإسرائيلي ضمان نقل المدنيين بأمان، وحصولهم على الضروريات مثل الغذاء والماء والرعاية الصحية والمأوى، والسماح للناس بالعودة إلى ديارهم في أقرب وقت ممكن بعد انتهاء الأعمال العدائية في تلك المنطقة.
لم يستوف الجيش الإسرائيلي هذه الشروط خلال العام الماضي، والأمل ضئيل في استيفائها الآن. بعد أسبوع من الأعمال العدائية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أمر الجيش الإسرائيلي أكثر من مليون شخص في شمال غزة بمغادرة منازلهم، دون توفير وجهة آمنة لهم، وفي بعض الأحيان هاجمهم أثناء فرارهم. قال طبيب من مخيم جباليا للاجئين لـ “هيومن رايتس ووتش”، حيث أعمل مديرة للبرامج، إنه فر مع عائلته بعد وقت قصير من صدور تلك الأوامر الأولى: “بمجرد أن سمعت أمر الإخلاء بالذهاب جنوبا، كان رد فعلي الأول: لن أغادر… لكن بعد ذلك بدأت القنابل، ودُمرت منازلنا. كان عليّ حماية عائلتي”. قال إنه و36 من أفراد أسرته فروا جنوبا، على طول طريق الإخلاء المحدد، لكنهم واجهوا قصفا أثناء فرارهم وبعد وصولهم إلى ما يسمى بالمنطقة الآمنة في الجنوب، حيث كانت الملاجئ ممتلئة.
حتى الآن، منع الجيش الإسرائيلي معظم السكان النازحين من العودة إلى الشمال. في الوقت نفسه، أشار كبار المسؤولين الحكوميين علنا إلى أن أراضي غزة ستتقلص، وأن سكانها يجب أن يغادروا ويُعاد توطينهم، وأن هذه الحرب ستكون “نكبة” أخرى (المصطلح الفلسطيني للنزوح الجماعي عام 1948). جعلت الهجمات الإسرائيلية على مدار العام الماضي معظم مناطق غزة غير صالحة للسكن، ما فاقم المخاوف من أن النزوح سيكون دائما. وفقا لـ”الأمم المتحدة”، تضررت أو دُمرت 87% من الوحدات السكنية والمدارس في غزة، وكذلك 68% من أراضيها الزراعية، و80% من المرافق التجارية، و68% من شبكة الطرق. البنية التحتية للمياه والطاقة في حالة خراب، ودُمرت جميع الجامعات.
تغطي أوامر الإخلاء الآن 85% من قطاع غزة. نزح نحو 1.9 مليون فلسطيني من سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون، ولجأوا إلى منازل أقاربهم والمباني العامة والخيام والبيوت الزراعية وتحت سقوف من المشمعات البلاستيكية. يبدأ موسم الأمطار هذا الشهر.
بحسب الأمم المتحدة، مازال أكثر من 400 ألف شخص في شمال غزة. بعضهم من كبار السن أو من ذوي الإعاقة، وبعضهم في المستشفيات. تمكن البعض من العودة إلى الشمال بعد نزوح سابق. ليس لدى كثير منهم مكان يذهبون إليه وقالوا إنهم لا يعتقدون أنهم سيكونون أكثر أمانا في ما يسمى بالمناطق الإنسانية التي حددها الجيش الإسرائيلي. قال مدير مستشفى كمال عدوان في الشمال، الدكتور حسام أبو صفية، إن نقص الغذاء والوقود والإمدادات الطبية “مرعب” ويعرض حياة المرضى للخطر، بمن فيهم الأطفال حديثي الولادة: “الحليب ينفد أيضا، والطعام ينفد، وكل شيء متاح ينضب”.
تشبه أوامر الإخلاء الأخيرة وعرقلة المساعدات الإنسانية التدابير المقترحة في خطة يُقال إن ضباطا إسرائيليين متقاعدين قدموها للحكومة الإسرائيلية مؤخرا، لإجبار المدنيين على الخروج من شمال غزة من خلال منع الغذاء والمياه وغيرها من الإمدادات. ينفي الجيش الإسرائيلي تنفيذ الخطة، لكنه في الواقع لم يسمح بإدخال المساعدات الغذائية إلى شمال غزة منذ الأول من أكتوبر/تشرين الأول. خلال تلك الفترة أمر بإخلاء المستشفيات هناك وسط تكثيف الهجمات القاتلة، بما فيها على مركز لتوزيع الأغذية. أغلقت آبار المياه والمخابز والنقاط الطبية والملاجئ في الشمال. توقفت منظمات الإغاثة عن تقديم خدماتها.
يعيش الناس في شمال غزة بين الخوف من الهجوم والموت جوعا والخوف من عدم السماح لهم بالعودة إذا غادروا منازلهم. أغلبهم من اللاجئين وأحفاد اللاجئين الذين فروا أو أجبروا على ترك منازلهم عام 1948، في ما أصبح الآن إسرائيل، ولم يُسمح لهم بالعودة قط. الحفاظ على التفوق الديموغرافي اليهودي في مساحات شاسعة من الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط، بما فيه من خلال النزوح القسري، يشكل عنصرا أساسيا في الجريمة ضد الإنسانية المستمرة المتمثلة بالفصل العنصري التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية، والتي تهدف إلى الحفاظ على هيمنة اليهود الإسرائيليين على الفلسطينيين. دعا بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية علنا إلى إعادة إنشاء المستوطنات اليهودية في غزة، ما يشكل جريمة حرب.
يتمتع المدنيون بالحماية سواء التزموا بأوامر الإخلاء العسكرية أم لا، وعلى الجيش الإسرائيلي باعتباره سلطة الاحتلال أن يضمن وصول المساعدات الكافية إليهم أينما كانوا. على إسرائيل أن توفر المساعدات الإنسانية من دون نقص في شمال غزة، بما فيها الإمدادات للمستشفيات، وأن تمتنع عن شن الهجمات غير القانونية، وأن تنهي كل أشكال النزوح القسري. ورد أن الولايات المتحدة كتبت إلى الحكومة الإسرائيلية في 13 أكتوبر/تشرين الأول تطالبها بالسماح بدخول مزيد من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة. هذه ليست المرة الأولى التي تتقدم فيها الولايات المتحدة بهذا الطلب، دون أن يُسفر عن أي تأثير يذكر. حان الوقت لتتخذ الولايات المتحدة إجراءات ملموسة وتُعلق المساعدات العسكرية إلى إسرائيل، لتجنب التواطؤ في الانتهاكات المتصاعدة ضد المدنيين في غزة، وخاصة في الشمال.