حرية الرأي والتعبير في لبنان: طبقات متعددة من القيود
الشبكة العربية لمعلومات وأحداث حقوق الإنسان – تصنّف الأزمة الاقتصادية في لبنان ضمن “أكثر الأزمات حدة على مستوى العالم منذ القرن 19″، وفقًا للبنك الدولي.
في 23 يونيو/ حزيران 2023، سجّل لبنان معدل تضخم وصل إلى 253.55%، أي ما يعادل ارتفاعًا شهريًا بنسبة 7.21%.
كما فقدت العملة اللبنانية أكثر من 95% من قيمتها قبل الأزمة، وقفزت أسعار المواد الغذائية بنسبة 279.54%، وارتفعت أسعار الكهرباء والمياه والغاز مع رفع الدعم عن استيراد السلع الحيوية ونفاد احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية، ما أدّى إلى تدهور حاد في الوضع الاقتصادي.
انفجرت الحالة الاجتماعية، وتُرجم الاستياء الشعبي من الفساد في الإدارة العامَّة كأحد الأسباب الرئيسيَّة للانهيار الاقتصادي والمالي في تظاهرات أكتوبر/ تشرين أول 2019.
زاد الوضع سوءًا مع انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020 وعرقلة التحقيق الداخلي من بعض الأحزاب السياسية، بالإضافة إلى جائحة كورونا التي أعدمت أي أمل في الخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية.
وفوق كل ذلك، يبقى لبنان اليوم دون رئيس جمهورية بعدما انتهت ولاية رئيس الجمهورية السابق ميشال عون في 30 أكتوبر/ تشرين أول 2022، وفشل مجلس النواب في انتخاب رئيس جديد.
في ظل الأزمات المتشعبة في مختلف القطاعات، لجأ اللبنانيون إلى ممارسة حقهم في حرية الرأي والتعبير في وجه السلطة السياسيَّة، إلّا أنهم ووجهوا بالقمع والمنع من ممارسة هذا الحق.
بدأت سلسلة العنف ضد ممارسة الحق في الرأي والتعبير من خلال الاستدعاءات وادعاءات النيابة العامة التي شكلت ضغطًا على الناشطين والصحافيين.
كثفت السلطات اللبنانية من استخدام نصوص تجريم القدح والذم لمعاقبة الصحافيين والناشطين الذين ينتقدون الفساد والأحزاب ذوي النفوذ.
تُنفَّذ تلك الإجراءات بعد شكاوى من مسؤولين حكوميين أو قادة الأحزاب السياسية أو مديري البنوك والمؤسسات الدينية.
ولذا، فإنّ المسؤولين عن انتهاك ممارسة الحق في الرأي والتعبير جهات رسمية تتعسف في لجوئها إلى استخدام نصوص تجريم القدح والذم ضمن قانون العقوبات في غير محلها.
يعد قانون العقوبات الصادر في العام 1943 بعيدًا عن تطور مفهوم الحقوق والحريات، إذ صدر قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما أنّه بعيد عن التطور التكنولوجي والعالم الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي.
تنص المادة 384 من قانون العقوبات على حبس لمدة تصل إلى سنتين لكل من يسيء لرئيس الدولة، أو العلم، أو الشعارات الوطنية.
كما تجرّم المادة 385 من نفس القانون، القدح والذم ضد الموظفين العموميين.
وجميع هذه الأحكام تتعارض مع المادة 13 من الدستور اللبناني، والتي تضمن الحق في حرية الرأي والتعبير.
أما فيما يخص محكمة المطبوعات التي تأسست عام 1962، فهي تستند إلى قانون المطبوعات الذي يختص بتوصيف الجرائم المتعلقة بما يتم نشره عبر وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية من الصحافيين والإعلاميين، دون ذكر منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما يخلق فراغ تشريعي في التعامل مع المساحات الرقمية، ويمنح الجهات الرسمية مساحة كبيرة للتعسف في استخدام نصوص القانون لقمع الناشطين عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
تعد القوى الأمنية من بين أكثر الجهات الرسمية التي تنخرط في ممارسات تنتهك الحق في حرية الرأي والتعبير، ويجري ذلك عادة من خلال مكتب الجرائم المعلوماتية، الملحق بقسم المباحث الجنائية الخاصة في وحدة الشرطة القضائية لدى قوى الأمن الداخلي.
اللافت هو أن هذا المكتب أنشئ من دون إجراء أي تعديل قانوني في هيكلية نظام قوى الأمن الداخلي.
كما أنّ لديه صلاحيات لاختراق للمساحات الرقمية وتعقب صفحات التواصل الاجتماعي بالتعاون مع مخبرين إلكترونيين لمراقبة ومعاقبة الناشطين الذين يعبرون عن آرائهم حول نشاط الدولة وأجهزتها ومن يديرونها.
وبذلك، ينتهك المكتب الحق في حرية الرأي والتعبير ويضغط على الناشطين والصحافيين الذين يعبرون عن آرائهم من خلال الاستدعاءات والاحتجازات بناءً على إشارات النيابة العامَّة.
تمثّل النيابة العامة في لبنان هيئة قضائية يتولاها قضاة يخضعون لنفس الأنظمة التي يخضع لها القضاة الآخرون.
وهي تشترك في حضور جلسات المحاكم الجزائية الممثلة لديها وتُعتبر جزءاً من المحاكم، إذ بإمكانها الملاحقة الجزائية عن طريق إقامة الدعوى العامة.
أمَّا قضاة النيابة العامَّة وقضاة الحكم فيتم تعيينهم من السلطة التنفيذية، وبذلك يكون بمقدور السلطة السياسية التحكم في توجهات النيابات العامة ودفعها للادعاء على المعارضين والناشطين والصحافيين.
تلعب الجهات الحزبية دورًا رئيسيًا في انتهاك الحق في حرية الرأي والتعبير من خلال التعسف في اللجوء إلى استخدام النصوص القانونيَّة في غير محلها أو من خلال الضغط الاجتماعي.
تلجأ الأحزاب التقليديَّة عادةً للملاحقات القانونية والقضائية من خلال استخدام نصوص قانونية قديمة كتلك الخاصة بتجريم القدح والذم ضد الموظفين العامين، وهي نصوص صدرت قبل تطور مفهوم الحريات وحتى قبل صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي كان لبنان شريكًا في صياغته ضمن اللجنة الخماسية عبر ممثله شارل مالك، وقبل تصديق لبنان على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
كما تلجأ الأحزاب للتهديدات الشخصية والابتزاز. بسبب الطابع الديمغرافي، تسيطر الجهات الحزبية اللبنانية على المناطق التي تشكل بها ثقلًا سياسيًا، وتفرض آراءها على عموم السكان وأصحاب المصالح عبر تهديدهم بمقاطعة هذه المصالح أو حرمانهم من الخدمات الواجبة على البلدية والتي بطبيعة الحال تتكون من أعضاء منتميين لهذه الأحزاب.
وحينها يفضّل البعض الابتعاد عن إبداء آرائهم وممارسة حقهم في التعبير.
سُجّلت في لبنان مخالفات إجرائية في كل مرحلة من التحقيق في القضايا الجزائية المتعلقة بالقدح والذم. على سبيل المثال، قال بعض المدّعى عليهم إنّ المحققين انتهكوا حقهم في الخصوصية وتفقدوا هواتفهم وحساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي دون أمر قضائي.
علاوة على ذلك، كانت الأجهزة الأمنية تضغط على الأفراد للتوقيع على تعهدات بعدم كتابة محتوى تشهيري عن صاحب الشكوى قبل المثول أمام القاضي وتقديم دفاعهم دون وجود أي نص قانوني يسمح بذلك.
وفي بعض الأحيان، يتم التوقيف الاحتياطي قبل المحاكمة على جرائم لا يعاقب الأفراد عليها بالسجن أكثر من سنة، وهو ما يشكل تجاوزاً للقانون.
كما يواجه الصحافيون والناشطون دعاوى قدح وذم على خلفية عملهم الصحافي، وتُنظر تلك الدعاوى أمام المحاكم العادية، والمحاكم العسكرية في بعض الأحيان، ما يتناقض مع قانون المطبوعات الذي يفرض تحويل القضايا ذات الصلة بالإعلام والإعلاميين إلى محكمة المطبوعات حصرًا.
على سبيل المثال، حكمت المحكمة العسكرية على الباحثة والصحافية اللبنانية حنين غدار في 10 يناير/ كانون ثان 2018 غيابيًا بالسجن لمدة ستة أشهر لانتقادها الجيش اللبناني في مؤتمر في واشنطن، ولكن أسقطت بعدها المحكمة العسكرية حكمها وحولت القضية إلى محكمة المطبوعات في 10 أبريل/ نيسان 2018 لأن القضية ليست من اختصاصها.
وفي يوليو/ تموز 2023، حكمت محكمة جزائية على الإعلامية “ديما صادق” بالسجن سنة وغرامة مالية بتهمة إثارة النعرات الطائفية والقدح والذم بخلاف القانون الذي يفرض النظر في هذه الدعاوى لدى محكمة المطبوعات.
وبين يناير/ كانون ثان 2015 ومايو/ أيّار 2019، حقّق مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية وحماية الملكية الفكرية 3599 قضية تتعلق بالتحقير والقدح والذم.
في عام 2015، حقّق المكتب في ٣٤١ حالة مثل عماد بزي وريتا كامل، وغيرهم، كما تم إجبارهم على توقيع “تعهد بالصمت”.
وفي 2018، حقق المكتب في 1451 حالة، و252 حالة في 2019. أما بعد ذلك العام، لم يصدر من أي جهة أرقام تحدد عدد القضايا التي تم الادعاء بها، ولكن يُرجح أنها ازدادت بشكل كبير عن السنوات الماضية.
في 3 مارس/ آذار 2023، فرضت نقابة المحامين في بيروت على المحامين الحصول على إذن مسبق منها قبل أي ظهور إعلامي أو مناقشة قضايا قانونية، وهو ما يحدّ من الحق في حرية الرأي والتعبير لدى المحامين ويشكّل ضررًا على حق المجتمع بالاطلاع على الشؤون القانونية والقضائية.
فقد اعتمدت النقابة الاستثناء على أنه الأصل، فبدلًا من معاقبة المحامين المخالفين تأديبًا لمخالفتهم أصول المهنة، قررت النقابة منع جميع المحامين من التعبير عن رأيهم وحجب المعرفة القانونية عن المجتمع الذي يعتمد على المحامين لمعرفة حقوقه وواجباته.
يطال العنف الممارس من الجهات الرسمية والحزبية الناشطين والصحافيين وحتى المواطنين غير التابعين لجهات سياسية، إذ إنّ وجود سلطة تتعسف في اللجوء إلى نصوص قانونية قديمة في غير محلها يساهم على نحو كبير في توسيع وزيادة وتيرة الانتهاكات ذات العلاقة بحرية الرأي والتعبير.
ومن جهة أخرى، من الضروري إعادة النظر في مصطلحات القدح والذم والتشهير كونها فضفاضة، ولا تنطبق بشكل كبير على العاملين في الحقل العام الذين تضيق مساحتهم الشخصيَّة عندما يدخلون الوظيفة العامَّة سواء بالانتخاب أو التعيين نظراً لضرورة المساءلة من المجتمع، والتي قد تأخذ شكل النقد اللاذع في بعض الأحيان.