تعليق عمل جمعيات مدنية في تونس استمرار لنهج تقويض الحقوق وخنق الحريات
قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّ قرار السلطات التونسية تعليق أنشطة عدد من جمعيات المجتمع المدني لمدة شهر، استنادًا إلى مبرّرات تفتقر إلى السند القانوني والموضوعي ويغلب عليها الطابع التعسّفي، يأتي في سياق ممارسات القمع المتكرّرة ضدّ فاعلي المجتمع المدني في تونس عبر استغلال الثغرات القانونية والنفوذ السياسي، بما يمثّل انتهاكًا مباشرًا للحقوق والحريات المكفولة في الدستور التونسي والاتفاقيات الدولية التي التزمت بها الدولة.
وذكر المرصد الأورومتوسطي في بيانٍ صحافي أنّ السلطات التونسية تواصل استغلال الأطر القانونية الوطنية بصورة تُفرّغها من مضمونها الحقوقي، من خلال توظيفها كأداة لتقييد الفضاء المدني وتقويض حرية الإعلام والعمل الأهلي، بما يؤدّي فعليًا إلى تقليص مساحة المشاركة العامة وخنق الأصوات المستقلة، في انتهاكٍ جسيمٍ لالتزامات تونس الدولية بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والدستور التونسي اللذان يضمنان حرية الرأي والتعبير وحقّ تكوين الجمعيات والمشاركة في الحياة العامة.
ولفت المرصد الأورومتوسطي إلى أنّ السلطات التونسية علّقت، خلال الفترة الممتدة من 24 إلى 31 أكتوبر/تشرين أول الماضي، ولمدة شهر واحد، عمل ثلاث جمعيات مدنية هي: “الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات”، و”المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية”، و”جمعية صحفيي نواة”، بذريعة الاشتباه في ارتكاب مخالفات إدارية ومالية، من بينها تلقّي تمويل أجنبي، وذلك استنادًا إلى المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المنظّم للجمعيات.
ونبّه المرصد الأورومتوسطي إلى أنّ الجمعيات المشمولة بالقرار كانت ملتزمة بإجراءات التدقيق المالي والإداري الرسمي، ولم ترفض أو تمتنع عن التعاون مع الجهات المختصّة لضمان الامتثال للمتطلّبات القانونية ذات الصلة، وكانت حريصة على تصويب سجلاتها وفقًا للأحكام التنظيمية النافذة، ومع ذلك، استهدفتها السلطات بقرارات إغلاق تعسّفية، في مؤشر واضح على أنّ الدوافع وراء تلك القرارات ذات طابعٍ سياسيّ أكثر منها إجرائيّ، وتهدف إلى تعطيل نشاط الجمعيات وتقويض الدور المستقل للمجتمع المدني ضمن حملة أوسع تستهدف المجال العام في البلاد.
ولفت الأورومتوسطي إلى أنّ السلطات التونسية لم تلتزم بالإجراءات القانونية الواجبة في تنفيذ قرارات الإغلاق، إذ تم إلقاء القرار الخاص بإغلاق جمعية صحافيي موقع “نواة” –التي تدير موقعًا إخباريًا استقصائيًا مستقلًا– أمام مقر الجمعية دون تسليمه رسميًا إلى الممثل القانوني أو الإدارة المعنية، في تجاوز واضح لمقتضيات الإخطار القانوني والإجراءات الإدارية السليمة.
وأشار إلى أنّ الجمعيات التي شملها قرار التعليق تنشط في مجالات الدفاع عن حقوق النساء، وحرية الصحافة والإعلام، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للتونسيين، وقد عُرفت بمواقفها النقدية تجاه السياسات الحكومية، خصوصًا الإجراءات التعسفية المتخذة ضدّ الصحافيين والمنظمات المدنية، ما يرجّح أنّ القرار جاء كردٍّ على نشاطها الرقابي والمستقل ضمن المجال العام.
في إفادة لفريق المرصد الأورومتوسطي، قال الناشط الحقوقي ومحامي جمعية “نواة”، “أيوب الغدامسي” إنّ “قرار تعليق عمل الجمعية جاء في سياق حملة شملت العديد من جمعيات المجتمع المدني التونسي استكمالًا لمسار بدأ بإجراءات بحث بقضايا التمويلات التي لا أساس لها من الصحة باعتبار أن كل الوثائق سليمة وتم التأكد منها وتمريرها عبر البنك المركزي التونسي وإعلام رئاسة الحكومة بتفاصيلها”.
وتابع: “عمل الجمعية قانوني، ولا يوجد مبرر أبدًا لكل هذه الإجراءات بحقها، خصوصًا قرار تعليق النشاط الذي كان خارج الطريق، مع العلم أنّ الجمعية ردّت على التنبيه الذي ورد لها في ديسمبر/ كانون أول 2024 المتعلق بأساس التمويلات بطريقة شفافة وقانونية، وقدّمت الوثائق المطلوبة”.
وأضاف أن “تعليق عمل الجمعية لمدة شهر يصحبه إجراءات قانونية للطعن بهذا القرار، ومحاولة إلغائه في المحاكم التونسية، وبمجرد انقضاء الشهر سيتم ايداع كل المواثيق الضرورية لعودة نشاط الجمعية بشكل طبيعي”.
وبيّن المرصد الأورومتوسطي أنّ السلطات التونسية تواصل حملةً منهجية تستهدف الصحافيين والنشطاء الفاعلين في المجال العام، إذ أصدرت خلال الفترة الماضية عشرة أحكام بالسجن بحق صحافيين نُفِّذ منها ستة، فيما تم توثيق 167 حالة اعتداء ضد صحافيين ومراسلين ومصورين خلال العام الأخير، وفق بيانات النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، ما يعكس تدهورًا خطيرًا في بيئة العمل الإعلامي وغياب الضمانات الأساسية لحرية الصحافة والتعبير في البلاد.
وذكر المرصد الأورومتوسطي أنّ السلطات التونسية ما تزال تحتجز أربعة صحافيين هم: “شذى الحاج مبارك”، و”مراد الزغيدي”، و”سنية الدهماني”، و”برهان بسيس”، إلى جانب عددٍ من المعارضين السياسيين، استنادًا إلى تشريعات وأوامر تنفيذية ذات طابعٍ تعسّفي وفضفاض، تتعارض بوضوح مع الحقوق والحريات الأساسية، ولا سيّما الحق في حرية الرأي والتعبير، والحق في التجمع السلمي المكفولَين بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
ولفت المرصد الأورومتوسطي إلى أنّ السلطات التونسية تستخدم المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، إلى جانب مراسيم وتشريعات أخرى، كأدوات لتقييد حرية الرأي والتعبير وتقويض حرية الصحافة، من خلال ملاحقة الصحافيين والنشطاء الإعلاميين، وإغلاق أو تعطيل عمل وسائل الإعلام، وفرض عقوبات سالبة للحرية على خلفية التعبير عن الرأي أو ممارسة العمل الصحافي.
وذكّر بأنّ تونس طرف مصادق على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يحمي الحق في حرية التعبير والصحافة، وحرية تكوين الجمعيات أو الانضمام إليها، وحرية التجمع السلمي، الأمر الذي يرتّب عليها التزامات قانونية مباشرة وغير قابلة للتنصّل، تقضي باحترام أحكام العهد وضمان تطبيقها في جميع الممارسات التشريعية والإدارية والسياسية والقضائية.
ودعا المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان السلطات التونسية إلى التراجع الفوري عن قرارات تعليق أو إغلاق الجمعيات المدنية المذكورة، والكفّ عن ممارسة أيّ أشكال التضييق أو الانتقام ضدّ الفاعلين في المجتمع المدني، وضمان تمكينهم من أداء دورهم المشروع في مراقبة السياسات العامة والدفاع عن الحقوق والحريات.
كما دعا السلطات التونسية إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن الصحافيين والمحتجزين الآخرين على خلفية نشاطهم الإعلامي أو المدني أو ممارسة حقهم في حرية التعبير، ووقف استخدام التهم ذات الطابع السياسي أو الفضفاض لتجريم المعارضة السلمية أو تكميم الأصوات المنتقدة للسلطات.
وحثّ الأورومتوسطي السلطات على احترام الالتزامات الدستورية والدولية لتونس، ولا سيّما ما يتعلّق بحماية الحق في حرية تكوين الجمعيات، وحرية العمل الصحافي والاجتماعي، وحقّ الأفراد في التعبير عن آرائهم دون خوف أو قيود.
كما حثّ السلطة القضائية والهيئات الرقابية المستقلة في تونس على الاضطلاع بدورها في حماية الحقوق والحريات، ورفض توظيف المنظومة القانونية في ملاحقة الصحافيين والنشطاء والجمعيات المدنية، وضمان خضوع قرارات السلطات التنفيذية لرقابة قضائية فعّالة تراعي المعايير الدولية للمحاكمة العادلة.
وطالب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان هيئات الأمم المتحدة المعنية، ولا سيّما مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان والمقرّرين الخاصين، ببذل جهود فعّالة للضغط على السلطات التونسية من أجل وضع حدٍّ لحملتها التعسفية ضدّ المجتمع المدني، وفتح مراجعة شاملة لأوضاع حقوق الإنسان في البلاد، بما يضمن امتثال السلطات لالتزاماتها بموجب اتفاقيات حقوق الإنسان الدولية، وصون حقوق الأفراد والمنظمات في ممارسة أنشطتهم وحقوقهم الأصيلة دون خوف أو انتقام.