تقرير حقوقي: تأثير اعتقال النشطاء الإماراتيين وإسكاتهم على مواقف المجتمع من القضية الفلسطينية
في ظل التحولات السياسية التي شهدتها المنطقة، ومع تزايد التوجه نحو التطبيع مع “إسرائيل”، وجدت السلطات الإماراتية نفسها أمام تحدٍ داخلي يتمثل في النشطاء والمثقفين الذين رفعوا أصواتهم دعمًا للقضية الفلسطينية ومعارضةً لأي شكل من أشكال التعاون مع إسرائيل.
منذ بداية عام 2012، بدأت السلطات الإماراتية في تنفيذ حملة اعتقالات مكثفة طالت أبرز الشخصيات التي كانت تنادي بحقوق الفلسطينيين وتعارض التطبيع. لم يكن هذا القمع مجرد استهداف لأفراد، بل جزءًا من استراتيجية شاملة لخلق بيئة سياسية تتماشى مع توجهات الدولة نحو التطبيع، عبر إقصاء الأصوات المعارضة وترويج صورة زائفة عن توافق المجتمع الإماراتي مع هذه السياسات.
أولًا: قمع الأصوات الداعمة لفلسطين وإسكات المعارضة
تزامنت حملة الاعتقالات بحق النشطاء المدافعين عن القضية الفلسطينية مع بروز أصوات حكومية مؤيدة للتطبيع مع إسرائيل، أبرزها ضاحي خلفان، الذي كان صريحًا في تأييده للتطبيع ويظهر كأنه خارج التيار العام. لكن الواقع كشف أنه كان جزءًا من استراتيجية أوسع تتبناها الحكومة الإماراتية لتوجيه الرأي العام نحو قبول التطبيع.
ولتحقيق هذا الهدف، كان على الدولة إسكات الشخصيات البارزة التي قد تعترض على هذا التوجه، وهو ما تم من خلال الزج بهؤلاء النشطاء خلف القضبان ومنعهم من الوصول إلى الجمهور. هذا القمع الممنهج أدى إلى تهميش الأصوات المناهضة لإسرائيل، مما أتاح للحكومة أن تروج للتطبيع دون أي مقاومة تذكر، وتخلق صورة خادعة توحي بتوافق كامل داخل المجتمع الإماراتي.
ثانيًا: أبرز النشطاء المعتقلين ودورهم في دعم القضية الفلسطينية
استهدفت حملة الاعتقالات عددًا من الشخصيات المؤثرة التي كانت تقف بصلابة ضد التطبيع وتدعم القضية الفلسطينية، ومنهم:
- أحمد منصور: ناشط حقوقي بارز عُرف بمواقفه الصريحة ضد الاحتلال الإسرائيلي ودعمه غير المحدود للشعب الفلسطيني. في تغريداته عام 2014، انتقد منصور دعم بعض الدول الخليجية لإسرائيل، واعتبر أن صمود المقاومة في غزة هو تعبير عن إرادة لا يمكن قمعها، ودعا إلى محاسبة إسرائيل وفقًا للقانون الدولي لتجنب تكرار الاعتداءات على غزة.
- ناصر بن غيث: أكاديمي وناشط، كان دائمًا في صف المدافعين عن حقوق الفلسطينيين، وتحدث بشكل صريح عن الصمود الفلسطيني. في إحدى تغريداته، وصف غزة بأنها “حرب إرادات” وليس فقط حرب سلاح، مشيدًا بصمود الشعب الفلسطيني الذي وصفه بأنه يستحق المجد والإعجاب.
- الدكتور محمد الركن: محامٍ وناشط حقوقي، كان عضوًا في “لجنة مقاومة التطبيع” قبل حلها، ومن المعروف أنه كان أحد أبرز المدافعين عن حق الفلسطينيين ورفض التطبيع مع إسرائيل. دافع الركن باستمرار عن الشعب الفلسطيني، مما جعله مستهدفًا في حملة الاعتقالات الرامية إلى إسكات الأصوات المعارضة.
- الشيخ محمد عبدالرزاق الصديق: أحد الشخصيات العامة البارزة، كان له دور في المظاهرات التي خرجت عام 2008 على كورنيش بحيرة خالد في الشارقة، تنديدًا بالمجازر الإسرائيلية. ألقى كلمة مؤثرة تدعو إلى وقف العدوان الإسرائيلي ورفض أي شكل من أشكال التطبيع، ما جعل صوته مقلقًا للسلطات الساعية لإحكام سيطرتها على الرأي العام.
- الدكتور علي الحمادي: من الشخصيات التي كانت تُعارض التطبيع بشدة، وكان يرى أن المسجد الأقصى حق مقدس للمسلمين. حث الحمادي المسلمين على الدفاع عن مقدساتهم قبل أن تُدمر، ودعا الحكومات والشعوب الإسلامية إلى إرسال رسالة واضحة تعبر عن رفضها لسياسات إسرائيل ومن يدعمها، خصوصًا الولايات المتحدة.
ثالثًا: تأثير غياب الأصوات المعارضة على القضية الفلسطينية
إن غياب النشطاء الإماراتيين المدافعين عن القضية الفلسطينية سمح للسلطات الإماراتية بالدفع نحو تعزيز التطبيع مع إسرائيل بشكل أكثر صراحة ودون معارضة. فبعد إسكات هذه الأصوات وإخفاء الشخصيات المناهضة للتطبيع، وجدت الإمارات نفسها في موقع يسمح لها بقيادة عجلة التطبيع في المنطقة العربية، حيث قامت في عام 2020 بتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، وسبقت ذلك بإلغاء قانون مقاطعة إسرائيل.
لم تكتفِ الإمارات بذلك، بل لعبت دورًا في تشجيع دول عربية أخرى على اتخاذ خطوات مشابهة نحو التطبيع، مما أثر بشكل عميق على موقف الدول العربية تجاه القضية الفلسطينية. هذا التغيير السياسي الكبير لم يكن ليحدث بهذه السلاسة لولا تهميش الأصوات الداعمة لفلسطين التي كانت تضغط للحفاظ على ثوابت الأمة في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.
رابعًا: الإمارات والقضية الفلسطينية في عهد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان
كان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس دولة الإمارات، رمزًا للدعم العربي الثابت للقضية الفلسطينية. مواقفه الراسخة ضد الاحتلال الإسرائيلي جعلت الإمارات في عهده تتصدر المشهد العربي في دعم الفلسطينيين. فقد قال الشيخ زايد عبارته الشهيرة في حرب أكتوبر 1973: “النفط العربي ليس بأغلى من الدم العربي”، مهددًا بوقف إمدادات النفط للدول التي تدعم إسرائيل، مما عكس موقفه الحازم في التصدي للعدوان الإسرائيلي.
لم تكن هذه العبارة مجرد شعار، بل كانت تجسيدًا لرؤية الشيخ زايد التي اعتبرت إسرائيل “العدو الأول للعرب والمسلمين”، كما صرح بذلك في مقابلة عام 1969، مضيفًا: “من شذ عن هذا الموقف فليس منا”. وقد تجلى دعمه الملموس للفلسطينيين في استقباله للشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس، حين قال له: “إسرائيل تنهب أراضي العرب، والإماراتيون إخوانكم، ما يهينكم يهينهم”. كما أصدر في عام 1972 مرسومًا بمقاطعة إسرائيل اقتصاديًا وسياسيًا، وكان هذا المرسوم التزامًا رسميًا يؤكد مبدأ رفض الاحتلال والتضامن مع الفلسطينيين.
تتباين سياسات الإمارات الحالية تجاه القضية الفلسطينية بشكل صارخ عن إرث الشيخ زايد، الذي كان يعتبر القضية الفلسطينية من ركائز السياسة الإماراتية. فقد بدأت السلطات منذ عام 2012 في اعتقال كل من يعبر عن دعمه لفلسطين أو ينتقد التطبيع مع إسرائيل، حيث تم إسكات النشطاء والمثقفين المؤيدين لحقوق الفلسطينيين وإبعادهم عن المشهد العام. لو كان الشيخ زايد حيًا وكان مواطنًا عاديًا في الإمارات اليوم، لربما وُجِهَ بتهم “تأييد الإرهاب” و”معارضة الدولة” بسبب مواقفه المناهضة لإسرائيل، ولربما كان أحد المعتقلين خلف القضبان.
بذلك، لا تعتقل الإمارات اليوم النشطاء فقط، بل تعتقل روح وإرث الشيخ زايد، مؤسس الدولة ورائد مواقفها الثابتة تجاه القضايا العربية. إن هذا التحول من التضامن مع فلسطين إلى الانخراط في التطبيع مع إسرائيل يعكس تغيّرًا جوهريًا في سياسات الدولة، حيث باتت الأصوات الداعمة للعدالة وللقضية الفلسطينية تُعتبر مهددة للأمن، بينما يتم استبدال إرث الشيخ زايد بسياسات تبتعد عن مبادئه.
خامسًا: تأثير غياب الأصوات المعارضة على الرأي العام الإماراتي
أدى غياب هذه الشخصيات المؤثرة إلى تشويه صورة الرأي العام الإماراتي، حيث أظهرت الحكومة الإماراتية حالة من التوافق الداخلي المزيف حول التطبيع مع إسرائيل. إن إسكات الأصوات المعارضة عن طريق الاعتقال القسري والقمع أتاح للأصوات الداعمة للتطبيع أن تتصدر المشهد الإعلامي والسياسي، مما أعطى انطباعًا بأن المجتمع الإماراتي يتفق مع هذه السياسات، بينما الحقيقة أن هذه الاعتقالات كانت ضرورية لتأمين هذا المشهد الموجه.
أصبح الإعلام الداخلي شبه خالٍ من أي صوت يطالب بحقوق الفلسطينيين أو يدعو لمقاطعة إسرائيل، مما يوحي بوجود دعم شعبي لمثل هذه السياسات، في حين أن الواقع يخفي تكميمًا منهجيًا لهذه الأصوات.
الخاتمة:
يوضح هذا التقرير أن اعتقال النشطاء الإماراتيين الداعمين للقضية الفلسطينية لم يكن فقط من أجل كتم حرياتهم، بل جاء ضمن خطة شاملة لإسكات المعارضة وإفساح المجال للتطبيع مع إسرائيل. إن هذه الممارسات القمعية لا تخلق توافقًا داخليًا حقيقيًا، بل تسعى لإخفاء الأصوات الحرة التي كانت تعبر عن رفض المجتمع الإماراتي للتطبيع وتأييده للحقوق الفلسطينية.
استمرار هذا القمع سيبقي المجتمع الإماراتي أسيرًا لصورة مشوهة لا تعكس واقع مواقفه من القضايا العادلة، وسيسهم في تغذية العزلة بين الحكومة والمجتمع.