ماكرون والسيسي وإغلاق ملف القضية “سيرلي”
الشبكة العربية لمعلومات وأحداث حقوق الإنسان – بحسب تقرير حديث نشرته صحيفة لوموند الفرنسية، رفض المدّعي العام الفرنسي فتح تحقيق في ادعاءات تورّط السلطات الفرنسية بالتعاون مع السلطات المصرية في ارتكاب جرائم قتل وتعذيب ضد مدنيين في مصر.
في إطار العمليات العسكرية المشتركة التي قامت بها الدولتان لمكافحة الإرهاب في الأراضي المصرية بين عامي 2016 و2018، عرفت بالعملية سيرلي.
مرّ هذا الخبر مرور الكرام، ولم ينتبه إليه كثيرون، في ظل حزمة أخرى من الأخبار المأساوية من الناحية الإنسانية خلال الفترة السابقة في المنطقتين العربية والإسلامية.
وكانت محاميتان فرنسيتان قد قدمتا شكوى رسمية للمدّعي العام الفرنسي، بالنيابة عن حركة “مصريون في الخارج من أجل الديمقراطية”، في سبتمبر/ أيلول 2022 للتحقيق في ما كشفت عنه منظمة ديسكلوز الفرنسية المختصّة بالتحقيقات الاستقصائية في تقريرها المنشور في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021.
وبحسب حقوقي مصري بارز مقيم في فرنسا، فإن “قرار المدّعي العام يعد سياسياً تتيحه له سلطته التقديرية في التعامل مع هذه النوعية من القضايا التي تخصّ سياسات المؤسّسة العسكرية الفرنسية خارج الحدود”.
ليست هذه المرّة الأولى التي تتقدّم بها المنظمات الحقوقية الفرنسية والمصرية بشكاوى قضائية في فرنسا، تتصل بتداعيات العلاقات المصرية الفرنسية الأمنية والعسكرية على حالة حقوق الإنسان في مصر، في ظل التنامي الهائل الذي شهدته مبيعات الأسلحة الفرنسية لمصر منذ عام 2014، بحيث أصبحت هذه المبيعات، بحسب تقرير هام صدر عن الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، عام 2018 بعنوان “مصر: قمع صنع في فرنسا” مربحةً لثماني شركات سلاح فرنسية بشكل خاص.
وقد اعتبر البرلمان الفرنسي، في تقريره السنوي لعام 2022، أن مصر المستورد الأهم للسلاح الفرنسي عالمياً، حيث قدّرت مبيعات السلاح الفرنسية لمصر ما يصل إلى 11.7 مليار يورو حتى سبتمبر/ أيلول 2022.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 تقدّم مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ومنظمات فرنسية أخرى بدعوى أمام المحكمة الجنائية في باريس ضد شركة أمسيس، لبيعها تقنيات تجسّس للسلطات المصرية، استهدفت مراقبة نشطاء ومدافعين عن حقوق الإنسان والديمقراطية، وقد رُفضت أيضاً هذه الدعوى بذريعة عدم كفاية الأدلة.
وكانت منظمة “فرونت لاين دفندرز” الأيرلندية قد أصدرت تقريراً آخر في يناير/ كانون الثاني 2019، حظي بتغطية إعلامية واسعة، وكشف بشكل حصري عن التورّط غير المباشر لشركة نافال غروب الفرنسية الشهيرة المختصّة بتصنيع المعدّات العسكرية البحرية، والتي يربطها اتفاق شراكة طويل الأجل مع القوات المسلحة المصرية، عن وقائع تعذيب وفصل تعسّفي، ومحاكمات عسكرية تعرّض لها عام 2016 عشرات من عمال شركة ترسانة الإسكندرية، التابعة لجهاز الصناعات والخدمات البحرية للقوات المسلحة المصرية.
وفي رد فعل على هذا التقرير، أرسل اتحاد عمال شركة نافال في باريس خطاباً إلى مجلس إدارة الشركة يطالب فيها بالتحقيق في هذه الانتهاكات، وتقييم علاقة الشراكة مع الشركة المصرية.
لكن السلطات الفرنسية لم تتحرّك، وهي التي تمتلك معظم أسهم شركة نافال، بشأن هذا التقرير.
ولم يتمكّن المحامون الفرنسيون من رفع دعوى مدنية على شركة نافال في فرنسا، استفادة من قانون المسؤولية الاجتماعية للشركات، خوفاً من الانتقام المرجّح من العمال المصريين وأسرهم داخل مصر، ومرّ الأمر من دون تحقيق، واستمرّ تعاون شركة نافال بشكل طبيعي.
وطبقاً لتصريحاتٍ متكرّرة لمسؤولي الشركة، فقد استطاعت “نافال” تحقيق مكاسب مالية كبيرة نتاج التعاون مع مصر، أنقذت فيها الشركة من خسارة مالية كانت تعاني منها.
الفصل الكامل بين مستوى التعاون الأمني والعسكري مع الحكومة المصرية وطرح قضايا حقوق الإنسان يعد من القضايا المركزية التي تعرقل النشاط الدولي الذي يهدف إلى التأثير بالسياسات العامة المصرية في مجال حقوق الإنسان، فقد احترفت السلطات المصرية، على مدار سنوات، احتواء إثارة البلبلة الدولية في ملف حقوق الإنسان، في ظل نظام حكم قام من اليوم الأول على أساس معادلة وجودية صفرية ضد خصومه، ودعم وجوده وشرعيته بفكرة أنه النظام المنقذ، والمفوّض شعبياً للتعامل مع أعداء الوطن.
جعلت هذه السمات نخبة الحكم في مصر لا تستجيب بسهوله لأي تنديداتٍ دولية، خصوصاً عندما يكون التعاون الأمني والعسكري والاقتصادي مع الخارج يسير على ما يرام، فهذه البلبلة الحقوقية في منظور النظام الحاكم يمكن تجاهلها كلية، أو في أضعف الحدود يمكن تقديم بعض التنازلات التكتيكية ذات التأثير المحدود في تغيير الصورة الإجمالية القاتمة لحقوق الإنسان في البلاد.
ففي سياق العلاقات المصرية الأميركية، جمّد مبلغ زهيد من المساعدات العسكرية عام 2017 في عهد إدارة ترامب، ثم تكرّر التجميد عامي 2021 و2022 في ظل إدارة بادين.
لم يؤثر هذا التحرّك الهامشي الذي دعت إليه الإدارة الأميركية استجابة لضغوط من الكونغرس، بالعلاقات الوثيقة الأمنية والعسكرية والاستخباراتية بين الجانبين.
وكان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، واضحاً عندما أكد للإعلام الفرنسي في أثناء استقباله الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في باريس في ديسمبر/ كانون الأول 2020 أن قضايا حقوق الإنسان لن تؤثر في استمرار مبيعات الأسلحة الفرنسية لمصر.
يؤمن كاتب هذه السطور بأن العدالة والمحاسبة لن تتحقّق بشكل فعّال إلا على المستوى الوطني، وأن وسائل العدالة الدولية أو في إطار الاختصاصات القضائية الأجنبية تواجه دائما ستاراً حديداً تفرضه السلطات التقديرية ذات الطابع السياسي لجهات التحقيق، أو تصطدم هذه القضايا بعقبة الحصانة الدبلوماسية لمسؤولي الدول، بحيث يصبح النجاح الاستثناء وليس القاعدة.
ولا شك في أهمية الاستمرار في محاولات طرق أبواب العدالة الدولية لجعل حقوق الإنسان والعدالة من أولويات النضال السياسي في مصر.
ونذكر هنا المحاولة الأحدث للمعتقل السياسي السابق رامي شعث في رفع شكوى، هو وزوجته، أمام اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب في يناير/ كانون الثاني السابق ضد الحكومة المصرية لإثبات انتهاكات تعرّضوا لها قبل فترة اعتقاله في مصر وخلالها.
ما زال القانون الدولي، الذي يرتكز بالأساس على تقديس سيادة الدول الوطنية ومصالحها على حساب مصالح الأفراد وحقوقهم، غير مؤهل للتعامل الجدّي والناجز مع ضحايا الجرائم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في إطار دولي أو عابر للحدود.
لقد أصبحت قضية حقوق الإنسان في مصر، وهموم الضحايا، قضية سياسية بالأساس، ولن يكون إحداث تحوّلات فيها إلا في إطار نضال سياسي أشمل لتغيير مسار الحكم السلطوي الحالي، وبناء قاعدة اجتماعية لسردية جديدة، تقوم على أولوية تسوية ملف أزمات حقوق الإنسان وحلّه مدخلاً للتعامل مع أزمات مصر الاجتماعية والاقتصادية.