بعد نجاتهم من القتل، الضحايا في السودان يواجهون الآن المجاعة
المجاعة تقتل بصمت 100 شخص يوميا في السودان، في مناطق تشمل جبال النوبة في ولاية جنوب كردفان، التي لجأ إليها مئات الآلاف هربا من المعارك المندلعة في العامين الماضيين بهدف السيطرة على البلاد، وذلك بحسب مسؤول إغاثي قدم إحاطة إلى “مجلس الأمن” الدولي في أغسطس/آب.
ورغم أن بضع رحلات جوية وقوافل مساعدات تمكنت أخيرا من البدء في التحرك، فإن الأمر يتطلب المزيد من الجهود لمعالجة الظروف التي تشكل مجاعة في مختلف أنحاء السودان، وعلى المجتمع الدولي أن يضغط أكثر على الأطراف المتحاربة للسماح بدخول المساعدات. وهذا ينطبق بشكل خاص على جنوب كردفان، التي تحصل إجمالا على قدر أقل من الاهتمام العالمي مقارنة بإقليم دارفورالمعروف.
سافرت إلى جنوب كردفان في منتصف أكتوبر/تشرين الأول، والتقيت بممرضة هي واحدة من 14 مليون شخص في السودان أجبروا على ترك منازلهم بسبب القتال، وهي بحكم الأمر الواقع مديرة مخيم مؤقت يسمى الحلو في جوار قرية تونغولي في جبال النوبة. أُجبِرت على الفرار من القتال في جزء آخر من جنوب كردفان. تقول الممرضة التي تفتقر إلى منزل وقُتل العديد من أفراد أسرتها: “كل ما نريده هو السلام”.
الحلو مستوطنة غير رسمية، وهي أكواخ خشبية مبنية يدويا قرب نهر، بلا بئر أو عيادة، ولا أحد هناك يقدم المساعدة مثل الطعام أو الماء أو الأدوية. فر المدنيون المعرضون للخطر الشديد إلى هنا هربا من العنف والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني في جميع أنحاء السودان، بما في ذلك القتل والاغتصاب والتعذيب على أيدي الطرفين المتحاربين في البلاد: “القوات المسلحة السودانية” و”قوات الدعم السريع”. تسيطران الجهتان على جيوب في جنوب كردفان، على حدود السودان مع جنوب السودان.
إلا أن الحلو لا تخضع لسيطرة أي منهما، بل لسيطرة “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال”، وهي جماعة مسلحة غير ضالعة مباشرة في النزاع الحالي. وبحسب زعماء محليين للحركة، يعيش الآن نحو 780 ألف شخص نازح من المناطق المتضررة من النزاع في السودان في أكثر من 15 مخيما مؤقتا في أجزاء من جبال النوبة التي تسيطر عليها الحركة، إلى جانب السكان الأصليين البالغ عددهم نحو 2.8 مليون نسمة. وقالت الحركة في أغسطس/آب إن الظروف في أراضيها تشكل مجاعة، حيث لدى 20% من الأسر نقص حاد في الغذاء ويعاني 30% من الأطفال من سوء التغذية.
وقد نجمت هذه الظروف عن عوامل مختلفة، منها فقدان محصول العام الماضي بسبب غزو الجراد والضغوط المتزايدة على مخزونات الغذاء في المجتمعات المحلية مع تدفق الوافدين الجدد منذ أواخر العام 2023.
أخذتني الممرضة لمقابلة امرأة عمرها 21 عاما كانت تحمل ابنها البالغ من العمر ثماني سنوات، بينما نقترب من خيمتها، من كتفيه حتى تتمكن من غسل ساقيه النحيلتين جدا لعدم قدرته على الوقوف بمفرده. لم يكن قد تناول أي شيء منذ أيام ولم يكن قادرا على الكلام أو المشي.
أخبرتني والدته كيف اقتحم أفراد من قوات الدعم السريع منزلها في بلدة الحبيلة القريبة في يناير/كانون الثاني 2024 أثناء هجوم على البلدة وقتلوا زوجها ووالدها وستة من أقاربها وأصدقائها، ثم اغتصبوها هي وأختها ووالدتها وأربع نساء وفتيات أخريات.
سألتها عما إذا كانت قد زارت عيادة قريبة للحصول على مكملات غذائية لابنها. ردّت بالإيجاب، لكن أضافت، “لم يكن لديهم ما يعطونه”. بينما كنت أتحدث مع الأم الشابة، كانت الممرضة تتنقّل بسرعة من خيمة إلى أخرى، وتحدد الأشخاص الذين لديهم حالات حادة من سوء التغذية وتحاول تأمين نقلهم إلى العيادة ومستشفى قريب.
ولا تصل أي مساعدات غذائية تقريبا إلى جنوب كردفان، بحسب توثيق وكالة “رويترز” في سبتمبر/أيلول. قال السكان إنه لم يصلهم أي شيء منذ أن جاءت ثلاث قوافل متفرقة من المساعدات الغذائية في الصيف. خلال زيارتنا التي استمرت خمسة أيام، لم نرَ أي منظمة دولية أو وكالة أُممية تقدم مساعدات غذائية.
علمت في صباح اليوم التالي أن ذلك الصبي البالغ من العمر ثماني سنوات قد توفي في الساعة 4 فجرا. حضرنا العزاء في خيمة والدته، إلى جانب نساء ورجال هزيلين وأطفال بطونهم متورمة. كان من بين أشقاء الصبي المتوفى شقيقه البالغ من العمر ثلاث سنوات، وكان يرتدي “تيشيرت” ورديا معلقا من كتفيه الصغيرتين الناحلتين.
أدركتُ أنه في كل الأيام التي زرنا فيها المخيم، من الصباح حتى غروب الشمس، لم أرَ أو أشم رائحة أي شاي أو طعام يُحضّر. كان الناس في الحلو يقتاتون على قشور الذرة البيضاء، التي كانوا يطحنونها ويشربونها مع الماء الساخن، وكذلك الخيار الذي ينمو في الحقول المحيطة. أخبرتنا الممرضة أن هذا هو الطفل الرابع منذ وصولها في مارس/آذار يتوفى جرّاء سوء التغذية في المخيم. زرنا لاحقا مخيما آخر في المنطقة، حيث ذكر أحد زعماء المجتمع هناك أن خمسة أطفال و13 شخصا مسنا ماتوا هناك بسبب سوء التغذية منذ يونيو/حزيران.
خلال الربع الثالث من العام 2024، سجل أكبر مستشفى في جبال النوبة، “مستشفى أم الرحمة” في جيديل، زيادة بنسبة 130% عن العام السابق في عدد الأطفال الذين لديهم سوء تغذية حاد ومتوسط. عالج مستشفى تديره ألمانيا في كاودا بين يونيو/حزيران وأكتوبر/تشرين الأول قرابة 251 مريضا من سوء التغذية، وتوفي سبعة منهم في المنشأة. المستشفى قرب مخيم الحلو الذي يحاول تلبية الاحتياجات المتزايدة في المنطقة عالج بين أواخر أغسطس/آب وأوائل نوفمبر/تشرين الثاني 483 شخصا على الأقل يعانون سوء التغذية، منهم 230 حالة حادة.
لا توجد مؤسسة تجمع بيانات عن العدد الإجمالي للوفيات جرّاء الجوع، ولكن من الواضح أن العديد من الأطفال والبالغين الآخرين سيموتون بسبب سوء التغذية ما لم تصل المساعدات الغذائية الكافية إلى الحلو على وجه السرعة.
صادفت الممرضة ثانيةً بينما كنا نهم بمغادرة المخيم. كانت عائدة من المستشفى، حيث كانت قد اصطحبت توا 14 طفلا قالت إنهم على وشك الموت. ولكن المستشفى كان قد أعطى العيادة مخزونه من الـ”بلامبي نات”، وهو مكمل غذائي يشبه زبدة الفول السوداني يستخدم على الأقل لتفادي حالات سوء التغذية الحادة بشكل مؤقت. (ليس من الواضح لماذا لم يتلق الطفل البالغ من العمر 8 سنوات ذلك في العيادة). ولم يكن لدى المستشفى مخزون من الغذاء يتجاوز ما يحتاج إليه نزلاء المستشفى. وتلقى بعض الأطفال العلاج من أمراض أخرى، ولكن لم يتلقَّ أي منهم الطعام أو المكمل.
عندما أخبرت الممرضة أننا سنغادر في صباح اليوم التالي، فقدت رباطة جأشها. تعانقنا وعندها فقط أدركت أنها كانت هزيلة تحت ملابسها أيضا. سألتها متى كانت آخر مرة تناولت فيها الطعام. ضحكت من بين دموعها قائلةً “ماذا سآكل؟” ثم استدارت بسرعة واختفت سائرة نحو مجموعة من الخيام.
على القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع أن تتوقف عن عرقلة المساعدات عمدا، وعلى جميع الجماعات التي تسيطر على الأراضي أن تيسّر وصول المساعدات على وجه السرعة. وفي الوقت نفسه، على الجهات المانحة أن تزيد من تمويلها للنداء الإنساني الذي أطلقته الأمم المتحدة للسودان، والذي لم يُموَّل سوى بنسبة 59% وينقصه 1.1 مليار دولار.
وقد اتخذ المجتمع الدولي بعض التدابير المتجددة لمحاولة تحسين محنة المدنيين في السودان، منها فرض عقوبات على كبار قادة قوات الدعم السريع. ولكن الجهود الأخيرة في مجلس الأمن الدولي لإجبار الأطراف المتحاربة على الوفاء بالتزاماتها بموجب القانون الدولي في مجلس الأمن باءت بالفشل.
وفي غياب المزيد من القيادة من جانب الدول الأعضاء في مجلس الأمن ونظرا لحجم المجاعة التي تقتل الناس في جميع أنحاء السودان، يمكن للأمم المتحدة أن تتحدث بوضوح أكبر عن العراقيل المستمرة أمام وصول المساعدات التي تعيق استجابتها، وينبغي دعم مثل هذه النداءات بتدابير دولية موثوقة ضد أي طرف مسؤول عن حرمان أي من سكان السودان من المساعدات.