ما ينبغي على “جو بايدن” فعله تجاه منتهكي حقوق الإنسان في الشرق الأوسط
كتب أنس جرجاوي- المدير الإقليمي- الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: تسيطر أجواء انتخابات الرئاسة الأمريكية على اهتمام مئات الملايين، ليس فقط في الولايات المتحدة، بل في أنحاء العالم كافة، للثقل الذي تمثله الولايات المتحدة في جميع الملفات حول العالم باعتبارها القوة الأبرز عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا على الساحة الدولية.
أظهرت النتائج غير الرسمية بعد انتهاء عمليات الفرز فوز مرشح الحزب الديمقراطي “جو بايدن” على الرئيس “دونالد ترمب” الذي لم يعترف بذلك حتى تاريخ كتابة هذه السطور.
لكن وفق المعطيات الحالية، فإنّ ما يمكن التقاطه من تعليقات السكان في دول النزاع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يحمل تفاؤلًا كبيرًا ليس بسبب فوز “بايدن” بل بسبب خسارة “ترمب” الذي لم يدّخر جهدًا في إطالة أمد النزاعات وتجاهل انتهاكات حقوق الإنسان مقابل صفقات تجارية وعسكرية مع الدول المنتهكة لحقوق الإنسان.
لدى مغادرته منصبه، يترك “دونالد ترمب” تركة ثقيلة لخلفه “جو بايدن” فيما يتعلّق بسياسة الولايات المتحدة تجاه عدة ملفات شائكة في الشرق الأوسط، وبالتحديد قضية انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، وانتهاكات حقوق الإنسان في السعودية ودول الخليج بشكل عام.
تلتزم الولايات المتحدة منذ عقود بدعم إسرائيل وضمان تفوقها ضمن محيطها بغض النظر عن اسم أو حزب الرئيس الأمريكي، لكنّ لم يسبق لرئيس أمريكي أن اتخذ القرارات المتطرفة التي أقرّها “ترمب” والتي وفّرت غطاء للانتهاكات الإسرائيلية، وأطلقت رصاصة الرحمة على أي فرص لمنح الفلسطينيين حقوقهم التي كفلتها قرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة.
انتهجت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد “ترمب” ليس فقط سياسة غض الطرف عن الانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، بل ذهبت أبعد من ذلك إلى أخذ المبادرة في انتهاك وإلغاء حقوق الفلسطينيين.
في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2017 أعلن “ترمب” الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من “تل أبيب” إلى “القدس”، وفي يناير من العام الحالي، أعلن “ترمب” نفسه عن “صفقة القرن” كرؤية أمريكية للسلام، لكنّها في الواقع كانت صدمة للفلسطينيين كونها تتبنّى وجهة النظر الإسرائيلية من الصراع، وتسلب الفلسطينيين حقوقهم، وفي مقدمتها حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة أو التعويض وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (194) لسنة 1948.
شجّعت إدارة الرئيس ترمب خلال السنوات الأربع الماضية سياسة إسرائيل في قضم الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات غير الشرعية، حتى أنّها لم تعارض بشكل واضح خطط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لضم ثلث مساحة الضفة الغربية لإسرائيل.
وعلاوة على ذلك، اعترف “ترمب” في مايو 2019 بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل، وهو ما يتعارض مع قرار مجلس الأمن رقم (497) للعام 1981 الذي رفض قرار إسرائيل ضم الجولان المحتل، وأكد عدم شرعية فرض إسرائيل قوانينها وإدارتها هناك.
بحسب تقرير حديث لحركة “السلام الآن” الإسرائيلية، تضاعف في عهد الرئيس “ترمب” عدد المخططات الاستيطانية التي تم المصادقة عليها بمقدار مرة ونصف مقارنة بالسنوات الأربع السابقة.
إذ صادقت الحكومة الإسرائيلية على بناء 26 ألفا و331 وحدة سكنية في المستوطنات في الأعوام الأربعة الأخيرة (2017-2020)، مقابل 10 آلاف و331 وحدة سكنية في الأعوام 2013-2016.
في المحافل الدولية، تصدّرت الولايات المتحدة جهود الدفاع عن إسرائيل بشكل غير مسبوق، وربما تلخّص ذلك في تصريح لسفيرة الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن في عهد “ترمب” “نيكي هيلي” -والتي استقالت فيما بعد- إذ قالت حين تسلم بلدها رئاسة دورة المجلس في أبريل 2017: “إنّ مجلس الأمن الدولي لن يركز على القضية الفلسطينية أو ينتقد إسرائيل في دورته الحالية (..) الولايات المتحدة لن تسمح للأمم المتحدة أو مجلس الأمم أن يتخذوا قرارات بشأن النزاع الفلسطيني الإسرائيلي ما لم يعد الفلسطينيون إلى طاولة المفاوضات”.
لا يُتوقّع من الرئيس الأمريكي المنتخب “جو بايدن” أن يعاقب الإسرائيليين على انتهاكاتهم، وإن كان ذلك واجبًا، لكنّ المنطق يُملي عليه التراجع عن الخطوات المتطرفة التي اتخذها “ترمب”، إذ ينبغي أن يتوقّف عن دعم إسرائيل في انتهاكاتها غير المسبوقة لحقوق الفلسطينيين، وأن يلتزم بالقرارات الدولية الخاصة بحقوق الفلسطينيين، وألا يوفر مظلة الحماية والدعم للانتهاكات المركبة التي تمارسها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية.
المطلوب من “بايدن” عدم تشجيع وقاحة إسرائيل، وإظهار نوايا حقيقية لاستثمار الثقل الذي تمثّله الولايات المتحدة في مساعدة الفلسطينيين على الحصول على حقهم في تقرير المصير، وحقوقهم الأخرى وفق ما كفلته قرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة.
في ملف حقوق الإنسان في السعودية ودول الخليج، شهد عهد الرئيس “ترمب” انتهاكات غير مسبوقة لحقوق الإنسان في المنطقة، كان أبرزها الحرب في اليمن، واغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، وتصعيد السلطات السعودية من الاعتقال التعسفي وقمع الحرّيات في البلاد.
قابل الرئيس الأمريكي “ترمب” وإدارته جميع تلك الانتهاكات بتجاهل أو حتى تواطؤ في بعض المراحل، وبدا أنّ الولايات المتحدة بكل ثقلها يُمكن أن يُشترى صمتها مقابل مئات المليارات من الدولارات التي ضختها السعودية بسخاء في الاقتصاد الأمريكي على شكل صفقات أسلحة أو استثمارات أو غيرها، إذ لم تترد الولايات المتحدة في منح الضوء الأخضر لمرتكبي الانتهاكات للاستمرار في ارتكاب الفظائع مقابل ضخ أموال طائلة في الاقتصاد الأمريكي.
في 25 آذار/ مارس 2015 قادت المملكة العربية السعودية تحالفًا عسكريًا في اليمن لوقف تمدد جماعة الحوثي التي سيطرت على الحكم في البلاد بقوة السلاح، لكنّ هذا التدخل لم ينته حتى الآن ولم يفلح حتى في وقف تمدد الجماعة التي كسبت أراض جديدة وتعاظمت قوتها العسكرية حتى أصبحت تستهدف باستمرار أراضي السعودية بالصواريخ والطائرات المسيرة.
وفقًا لتقارير مختصة، فقد أكثر من 100 ألف يمني أرواحهم منذ التدخل العربي عام 2015، بينهم آلاف المدنيين الذين سقط غالبيتهم نتيجة غارات جوية لطيران التحالف، ومع ذلك استمرت إدارة “ترمب” في تطوير العلاقات مع المملكة، وإبرام الصفقات العسكرية.
ففي أول جولة خارجية له، اختار الرئيس “ترمب” العاصمة السعودية الرياض محطة أولى في مايو/ أيار 2017، نتج عنها توقيع صفقة توريد أسلحة للسعودية بقيمة 110 مليار دولار من أصل 470 مليار دولار على مدى عشر سنوات، كاستثمارات سعودية في قطاعات أمريكية مختلفة توفر أكثر من مليون وظيفة لعاطلين أمريكيين عن العمل.
في 2 تشرين الأول/أكتوبر 2018، قتل فريق سعودي الصحفي والكاتب السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، ورغم تقديم المصادر الاستخبارية الأمريكية تقارير للرئيس “ترمب” عن مسؤولية ولي العهد السعودي عن العملية، إلا أنّه تجاهل ذلك ورفض أي نوع من المحاسبة لولي العهد أو المملكة، والسبب بالتأكيد أنّه لا يريد أن يخسر زبونًا كبيرًا في سوق الاستثمارات والأسلحة.
كانت سياسة إدارة “ترمب” في التعامل مع السعودية ومنتهكي حقوق الإنسان في الشرق الأوسط التغاضي عن تلك الانتهاكات مقابل المال، وهذه السياسة فعليًا أضرت بسمعة الولايات المتحدة كثيرًا، إذ لم يسبق لرئيس أمريكي التعامل بهذا المنطق في سياسته الخارجية.
إنّ المطلوب من الرئيس الأمريكي المنتخب “جو بايدن” أن يتصرّف في هذه الملفات وفقًا لالتزامات الولايات المتحدة في إطار القوانين الدولية، والتزاماتها الأخلاقية تجاه ضحايا الصراع في المنطقة، وأن يعيد الاعتبار لملف حقوق الإنسان في علاقة الولايات المتحدة مع الأنظمة القمعية في الشرق الأوسط.
لا ينبغي منح مزيد من الشيكات البيضاء للأنظمة الديكتاتورية، ولا يجدر بالإدارة الأمريكية الجديدة استمرار إمداد منتهكي حقوق الإنسان بالأسلحة والتكنولوجيا المتقدمة التي تساعد في إطالة أمد الصراعات، وسيكون من المشين الاستمرار في توفير غطاء للأنظمة الديكتاتورية، والنظر فقط إلى مصالح الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية دون الالتفات إلى الضحايا والمضطهدين.
أطلق “بايدن” في حملته الانتخابية الكثير من الوعود لإرساء العدالة والمساواة والوحدة في المجتمع الأمريكي، ولأنّ الولايات المتحدة الدولة الأكثر تأثيرًا في عالم السياسة، ينبغي على “بايدن” أن يسحب تلك الوعود على مستوى السياسة الخارجية للولايات المتحدة التي شهدت قرارات “جنونية” في عهد “ترمب”.
الكرة الآن في ملعب الرئيس الأمريكي المنتخب “جو بايدن” فإما أن يتراجع عن الخطوات السلبية التي اتخذتها إدارة “ترمب” تجاه ملفات الشرق الأوسط، ويؤسس بذلك لعهد جديد لا يقايض المحاسبة بالمال، ولا يتحلّل من التزاماته الأخلاقية مقابل حسابات اقتصادية، أو يُبقي على تلك القرارات البغيضة، ويؤكد النهج الأمريكي الحالي في تجاهل حقوق الإنسان، وتقديم المصالح السياسية والاقتصادية على مبادئ العدالة والمساءلة.