الكوليرا تتفشى في اليمن: ملايين مهدّدون مع استمرار النزاع وتراجع التمويل
بيروت – قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إن السلطات والأطراف المسيطرة على الأرض في اليمن تتحمّل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن تفشّي وباء الكوليرا، إذ يُعَدّ انتشارُه نتيجةً مباشرةً لانهيار شبكات المياه والصرف الصحي، وسوء إدارة النفايات، وعرقلة وصول الفرق الطبية والإمدادات، في حين يقع على عاتق تلك السلطات تشغيل الشبكات وإصلاحها وحمايتها، وضمان توافر المياه المأمونة وخدمات الصحة العامة والصرف الصحي.
وأشار الأورومتوسطي إلى أن القانون الدولي الإنساني ومعايير الحق في الصحة تلزم السلطات على الأرض بتمكين الإغاثة واتخاذ التدابير الفورية اللازمة لمنع تفشّي الأمراض القابلة للوقاية.
وذكر المرصد الأورومتوسطي في بيان صحافي اليوم الثلاثاء أنّ اليمن سجّل في المدة بين مارس/آذار 2024 وأغسطس/ آب 2025 نحو 332,000 حالة مشتبه بإصابتها و1,073 حالة وفاة ذات صلة بوباء الكوليرا، ما يجعل البلاد تحتل المرتبة الثالثة عالميًا من حيث عدد الإصابات، وسط مخاوف متزايدة من تفاقم انتشار المرض خلال موسم الأمطار الحالي نتيجة ارتفاع معدلات تلوّث المياه وضعف أنظمة الصرف الصحي.
وأوضح الأورومتوسطي أنّ خطة الاحتياجات والاستجابة الإنسانية في اليمن تُعاني من عجز تمويلي حاد يتجاوز 80%، نتيجة تخلّف عدد من الدول والجهات المانحة عن الوفاء بتعهّداتها المالية، إذ لم يُسدَّد حتى سبتمبر/أيلول 2025 سوى 474 مليون دولار من أصل 2.48 مليار دولار هي إجمالي المبلغ المطلوب لتغطية متطلبات الخطة، ما أدّى إلى إضعاف قدرة برامج مكافحة الكوليرا وتعطيل جزء واسع من الأنشطة الوقائية والعلاجية، رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها المنظمات الصحية المحلية والدولية في محاولة للحفاظ على ملايين اليمنيين خارج دائرة خطر الإصابة بالوباء.
وأشار المرصد الأورومتوسطي إلى أنّ التعهّدات المالية التي تُقدِّمها الدول والجهات المانحة في المؤتمرات الإنسانية تمثّل التزامًا أخلاقيًا وسياسيًا يعكس مبدأ التضامن والتعاون الدولي المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والذي يُلزم الدول باتخاذ خطوات جماعية لضمان الحق في الصحة والمياه المأمونة، لاسيما في حالات الطوارئ الإنسانية، وأن تتعاون على الصعيد الدولي لتقديم المساعدة التقنية والاقتصادية عند الحاجة.
وأكّد الأورومتوسطي أنّ الوفاء بهذه التعهّدات لا يُعدّ مجرد مساهمة طوعية، بل عنصرًا جوهريًا في منظومة الاستجابة الدولية، إذ يُسهم مباشرة في تمكين المنظمات الإنسانية من تنفيذ تدخلات منقذة للحياة ومنع انهيار الخدمات الأساسية في الدول المتأثرة بالنزاعات والأزمات.
ونبّه المرصد الأورومتوسطي إلى أنّ البيانات المتاحة حول تفشّي الكوليرا في اليمن لا تعكس بالضرورة الحجم الحقيقي للكارثة، إذ يُرجَّح أن تكون أعداد الإصابات والوفيات الفعلية أعلى بكثير من المعلن، في ظلّ ضعف أنظمة الرصد الوبائي، وغياب التغطية الشاملة لخدمات الرعاية الصحية في جميع المناطق، وامتناع كثير من المصابين أو ذويهم عن الإبلاغ نتيجة صعوبة الوصول إلى المرافق الطبية، ما يجعل من تقدير نطاق انتشار الوباء بصورة دقيقة أمرًا بالغ الصعوبة.
وبيّن أنّ تفشّي الكوليرا أصبح متوطنًا في اليمن نتيجة اتساع نطاق الانتشار وارتفاع أعداد الإصابات والوفيات وعدم معالجة الأسباب الجذرية، إذ شهدت البلاد بين عامي 2017 و2020 أكبر تفشٍّ لوباء الكوليرا في التاريخ الحديث، وما تزال حتى اليوم تُسجِّل إصابات جديدة يوميًا، ما يُفاقم الأعباء على النظام الصحي المتهالك أصلًا في ظل نقص التمويل الدولي وضعف البنية التحتية للمياه والصرف الصحي.
وأشار إلى أنّ استمرار النزاع المسلّح في اليمن للعام العاشر على التوالي، والذي أفضى إلى أزمة إنسانية تُعدّ من الأسوأ عالميًا، أسهم بشكل مباشر في تفشّي وباء الكوليرا وتقويض جهود مكافحته، إذ أدّت الغارات والقصف المتكرر إلى تدمير واسع لشبكات المياه والصرف الصحي، فيما أدّت القيود المفروضة على عمل المنظمات الإنسانية إلى تأخير أو إحباط عمليات الصيانة وإعادة التأهيل، وإلى عرقلة وصول فرق التطعيم والوقاية إلى المناطق المتضرّرة.
وذكر المرصد الأورومتوسطي أنّ سنوات النزاع الطويلة وما خلّفته من انقسام سياسي وإداري حاد أدّت إلى تعقيد جهود التنسيق وجمع البيانات اللازمة للتدخلات الإنسانية، ما أسهم في تأخّر رصد حالات الإصابة بالكوليرا في بعض المناطق، وحرمان مناطق أخرى من خدمات صحية أساسية ولائقة، نتيجة تشتّت السلطات وتداخل الصلاحيات وضعف منظومات المتابعة الميدانية.
وأكّد الأورومتوسطي أنّ الفئات الأكثر هشاشة، وعلى رأسها الأطفال والنساء، تتحمّل العبء الأكبر من الأزمات الإنسانية، بما في ذلك تفشّي الكوليرا، إذ يُصاب سنويًا عشرات الآلاف من الأطفال اليمنيين بالإسهال المائي الحاد الناتج عن الكوليرا، ما يؤدي إلى الجفاف وسوء التغذية الحاد وتهديد الحياة. كما أنّ الاكتظاظ الشديد في مخيّمات النازحين، وغياب وسائل النظافة والتعقيم، وصعوبة الوصول إلى المياه المأمونة، يجعل من هذه المخيّمات بيئة مثالية لتفشّي الوباء وانتشاره السريع بين الفئات الضعيفة.
وفي إفادة لفريق المرصد الأورومتوسطي، قال المسؤول الإعلامي في وزارة الصحة اليمنية “تيسير السامعي” إنّ تراجع الدعم الدولي لقطاع الصحة في اليمن خلال العامين الماضيين تسبب بتقويض عمل فرق الاستجابة السريعة للكوليرا، بما في ذلك تراجع حملات التوعية والتثقيف، ما أدّى إلى عودة الوباء للتفشي بقوة، وسط عجز الحكومة عن مكافحته بسبب الضغط الكبير على المرافق الصحية، وشح المساعدات الخارجية، وتداعيات الحرب التي أنهكت مؤسسات الدولة وخصوصًا القطاع الصحي.
كما أبلغ الطبيب “ياسين عبد الملك” من محافظة تعز، فريق المرصد الأورومتوسطي: “يعمل الكادر الصحي وخصوصًا في تعز بنظام المياومة أو بالتعاقد بدعم من المنظمات الدولية، وهو ما يعني أنّ تراجع الدعم الدولي سيؤدي بالضرورة لتوقف الكادر الصحي عن العمل، بما يعنيه ذلك من عواقب أهمها عودة تفشي الكوليرا على نطاق واسع”.
وقال: “فحصنا عيّنات من آبار مياه وخزانات مياه منزلية، ووجدنا أنّها ملوثة ببكتيريا الكوليرا، بالإضافة إلى بعض من الخضار كالكراث والبقدونس”.
وأضاف أنّ “أحد عوامل التفشي الواسع للكوليرا في محافظة تعز تعطّل شبكة الصرف الصحي جراء الحرب، ما ساهم بتلوث الخضار والفواكه التي يتم بيعها في الشوارع، كما أنّ عدد السكان الكبير والحصار المطبق على المحافظة، بما في ذلك منع الوصول لمصادر المياه النظيفة، جعل الناس يعيشون في شح شديد ويضطرون لاستعمال المياه الملوثة”.
وبحسب بيانات الأمم المتحدة، فإنّ تراجع التمويل الإنساني يجبر وكالات الإغاثة على تعليق أو تقليص البرامج الحيوية، ما يترك ملايين الأشخاص دون إمكانية الحصول على المساعدات المنقذة للحياة، في وقتٍ يحتاج فيه أكثر من 19 مليون شخص في اليمن إلى خدمات الرعاية الصحية، بينهم 17 مليونًا لا يحصلون على ما يكفيهم من المياه لتغطية احتياجاتهم اليومية الأساسية، وهو ما يُشكّل عاملًا رئيسًا في استمرار تفشّي الكوليرا وانتشارها على نطاق واسع.
وطالب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان الحكومة اليمنية وسلطات الأمر الواقع وجميع أطراف النزاع بتسخير كل إمكانياتها المتاحة لمكافحة تفشّي الكوليرا في البلاد، مشدّدًا على ضرورة تقديم التسهيلات الكاملة لعمل المنظمات الصحية المحلية والدولية، والتوقف الفوري عن استهداف أو احتكار مصادر المياه، والسماح بإجراء صيانة عاجلة لمحطات المياه ومعالجة الصرف الصحي، إلى جانب الاستثمار في تطوير المرافق الصحية ورفع جاهزية المستشفيات للتعامل مع مستجدات الحالة الوبائية، وضمان وصول الإمدادات الطبية والوقود دون عوائق إلى جميع المناطق المتضرّرة.
ودعا المرصد الأورومتوسطي جميع الدول والجهات المانحة المعنية إلى الوفاء بتعهّداتها المالية تجاه خطة الاستجابة الإنسانية في اليمن، والامتناع عن أي تقليص في مخصصات المنظمات الدولية والأممية التي تضطلع بدورٍ رئيسي في مكافحة وباء الكوليرا. وأشار إلى أنّ السلطات المحلية تعاني من فجوة مؤسسية عميقة وضعف حاد في القدرات التشغيلية، ما يحدّ من قدرتها على تنفيذ التدخلات الإنسانية اللازمة للسيطرة على الوضع الوبائي المتفاقم في البلاد، مؤكدًا أنّ استمرار هذا العجز المالي يُهدّد بانهيار البرامج الحيوية في مجالات المياه والصرف الصحي والرعاية الصحية الأساسية.
وأكد على أنّ المجتمع الدولي يتحمّل مسؤولية أساسية في معالجة الأسباب الجذرية للأزمات الإنسانية في اليمن، عبر إنهاء النزاع وتحقيق تقدّم حقيقي في مسار السلام الشامل، وتعزيز جهود التعافي الاقتصادي وإعادة بناء المؤسسات العامة والخدمات الأساسية، بما في ذلك منظومات المياه والصرف الصحي والصحة والتعليم، مؤكدًا أنّ السلام المستدام والتنمية المتوازنة يشكّلان الشرطين الأساسيين لإنهاء دوّامة الأزمات الإنسانية المتكررة، ومنع تفشّي الأوبئة، وضمان تمتع جميع اليمنيين بحقهم في الحياة الكريمة والصحة والمياه المأمونة.