العمال المهاجرون يجاهدون للبقاء بعد انفجار بيروت
وقف العالم عاجزًا بعد أن هز انفجار مرفأ بيروت المدمر قلب العاصمة اللبنانية في الرابع من أغسطس الجاري.
أكد مركز إمباكت الدولية لسياسات حقوق الإنسان، أن الدمار الناجم عن الانفجار امتد لمساحة دائرية يصل نصف قطرها لـ 10 كيلومترات، وتسبب بمقتل ما لا يقل عن 200 شخص وجرح 5,000 آخرين، بينما ترك أكثر من 300,000 شخص بلا مأوى. من بين هؤلاء عاملات منزليات منسيات، بلا مأوىً ولا مال، وما يزال يلف قدرهن الغموض.
وأشار المركز الى أن لبنان يضم أكثر من 250,000 عاملة منزلية، جئن بشكل أساسي من دول أفريقية وآسيوية ويعملون كعاملات نظافة ومربيات في المنازل.
بدأت أوضاع هذه العاملات تأخذ في التدهور بشكلٍ كبير بمجرد تأثير تفشي فيروس كورونا على الوضع العام في لبنان، مما جعل توظيفهن أكثر تعقيدًا مما كان عليه سابقًا.
إلى جانب الفيروس سريع الانتشار، أضرت الأزمة الاقتصادية في لبنان بالعمال بشدة، حيث لم يعد العديد من أرباب العمل قادرين على تحمل الأعباء المالية لعمالهم، ما أدى إلى طرد العديد من العاملات إلى الشوارع.
وحتى قبل اندلاع الانفجار، كانت البلاد بالفعل في حالة فوضى عارمة نتيجة للوضع الاقتصادي المتدهور، فكان يعيش الآلاف تحت خط الفقر، فيما انخفضت قيمة العملة اليومية، الأمر الذي أدى إلى تراجع الأعمال التجارية ووَضَع الكثير من العائلات في حالة من الذعر وعدم الاستقرار.
إلى جانب ذلك، ارتفعت أسعار السلع المستوردة بنسبة 56% مع ارتفاع تكلفة المواد الغذائية بنسبة 190%. فإذا كانت العائلات اللبنانية المستقرة ماليًا تكافح من أجل إعالة نفسها، فكيف سيحظى من يحصلون فقط على الحد الأدنى من الأجور بفرصة البقاء؟ نتيجةً لذلك، وقبل انفجار مرفأ بيروت، باتت الكثير من عاملات المنازل في شوارع المدينة لا حول لهم ولا قوة، يعانين الأعباء المالية التي لا يطيقون تحملها.
ومما زاد الطين بلة، أن أعدادًا كبيرة من عاملات المنازل اللاتي لم يتم تسريحهن أثناء الأزمة الاقتصادية تُركن بلا مأوى بعد أن هز الانفجار البلاد، ففقد معظمهنّ منازلهن وأرباب عملهم ووظائفهن تحت الأنقاض.
تُعامل عاملات المنازل في الوضع الطبيعي في لبنان على أنهنّ أدنى مرتبة من أصحاب العمل والأطفال الذين يعتنين بهم. وبشكلٍ عام، يبقى العمال المهاجرون في لبنان مقيدين ببرنامج الرعاية اللاإنساني للمهاجرين وهو ما يعرف بـ “نظام الكفالة”، الذي يشبه إلى حد كبير نظام الرق المعاصر.
يربط نظام الكفالة هذا، الموجود في معظم دول الشرق الأوسط، الوضع القانوني لعاملات المنازل بصاحب العمل، وبالتالي فهن لا يخضعن لقوانين العمل في لبنان، فما يحكمهن هو نظام الكفالة، فيُستثنى العمال المهاجرون من قوانين العمل اللبنانية بما فيها ما يتعلق بالحد الأدنى للأجور، وأجور العمل الإضافي، والضمان الاجتماعي.
الأمر الذي يعد انتهاكًا لاتزامات الدول بموجب المادة (7) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتي تضمن تمتع جميع العمال بظروف عمل متساوية دون تمييز.
بموجب نظام الكفالة، يتصرف صاحب العمل كما يحلو له فيما يخص العمال الذين يكفلهم؛ فلا يستطيع العامل على سبيل المثال تغيير وظيفته أو تركها دون أخذ إذنه. وهذا يعني أن الوضع المعيشي لعاملي المنازل يخضع تمامًا لسيطرة صاحب العمل، مما يسمح لأصحاب العمل استغلال عمالهم بكل الطرق الممكنة.
وعليه، تتعرض عاملات المنازل بشكل يومي لظروفٍ معيشية مسيئة، حيث يتعرض أصحاب العمل لهم بالإساءة الجسدية والنفسية، ويقلّصون رواتبهم حسب رغبتهم دون تمتع العاملات بالحق في الاعتراض.
إلى جانب ذلك، تحدثت عشرات العاملات المنزليات في لبنان عن تعرضهن للتحرش الجنسي من أصحاب العمل دون حصولهن على حقوقهن أو متابعة الأمر قانونيًا من قبل الجهات المختصة.
ومع ساعات العمل المتواصلة، وقلة أيام الراحة، والحرمان من حرية الحركة والتواصل، تتعرض عاملات المنازل للإرهاق الشديد ويتم تجاهل حقوقهن الوظيفية الأساسية وحاجتهن للراحة تمامًا.
فبالنسبة لهن، في المنازل، كل الساعات ساعات العمل. وفي نهاية المطاف، تحدث كل هذه الانتهاكات بسهولة بفعل نظام الكفالة المجحف.
وفي حال قررن الهرب من المنزل أو الإفصاح عن هذه الظروف القاسية، فإنهن يخاطرن بفقدان إقامتهن، فهن في معظم الحالات أمام خيارين فقط؛ إما أن يتم سجنهن أو ترحيلهن، لذلك تفضل معظمهن الصمت بدلاً من تلك المعاناة.
فإن صممن على الهرب، غالبًا ما يتلقين تهديدات من أرباب عملهن السابقين بابتزازهن للعودة إلى العمل. على سبيل المثال، تعرضت سابقًا عاملة نيجيرية للابتزاز من رب عملها للعودة إلى العمل مقابل عدم إرسال الشرطة لاعتقالها.
لذلك، يبقى العاملون في المنازل محاصرين بلا صوت ولا سبيل للهرب من النظام المجحف الذي يختبئ وراء نظام الكفالة. تشمل ظروف العمل الاستغلالية مصادرة جوازات السفر، مما يعني أنه في حالة الطوارئ، لا يمكن للعمال ترك صاحب العمل، أي يتم احتجازهم بموجب هذا النظام.
نظمت 30 عاملة منزلية اعتصامًا أمام القنصلية الكينية في بيروت، حيث فقدن جميعًا منازلهن ومن ثم وظائفهن بسبب الانفجار الأخير، فهتفت النساء مرارًا وتكرارًا، “نريد العودة لأوطاننا، نريد العودة لأوطاننا”.
ولسوء الحظ، على غرار معظم عاملات المنازل في لبنان اليوم، لا تستطيع هؤلاء النساء العاطلات عن العمل تسديد التكاليف اللازمة لشراء تذاكر الطيران إلى بلدانهن الأصلية، دون تلقي أي مساعدة من الحكومة المضيفة أو حكومات بلدانهن الأصلية، فقد تقطعت بهم السبل.
الأخطر من ذلك، هو أن بعض العاملات تحدثن عن أن البعض أخبرهن أنهن إذا أردن كسب المال للعودة إلى الوطن، فعليهن اللجوء إلى العمل بالدعارة.
مع الإصابات الناجمة عن الانفجار، وظروف العمل غير الصحية، والتشرد، وجائحة كورونا، من المهم إيلاء الاهتمام اللازم لأوضاع عاملات المنازل في لبنان.
ورغم أن أرباب العمل في لبنان مطالبون قانونيًا بضمان حصول العاملين لديهم على تأمين صحي، تجد معظم عاملات المنازل أن أصحاب العمل لم يؤمنوا لهن أي شكل من أشكال الضمان الصحي.
بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يتم نسيانهن لأنهن معزولات تمامًا عن بقية المواطنين، ويفتقرن إلى الأمان الذي تضمنه قوانين العمل اللبنانية، ويعتمدن بشكل كبير على أصحاب العمل.
ولا شك أن الافتقار إلى الضمان الصحي يعد أمرًا غير إنساني، خاصة خلال جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت حيث لم تكن هناك إمكانية لحصول عاملات المنازل حتى على الرعاية الصحية العاجلة.
ومما يزيد الطين بلة، أن الكثير ممن لا يعيشون في الشوارع، يبقين في “منازل آمنة” مع ما يصل إلى 20 إلى 30 عاملةً في غرفة واحدة، مما يعرضهن للإصابة السريعة بالفيروس وغيرها من الظروف التي تؤثر على حالتهن العقلية والنفسية.
على سبيل المثال، تتعرض النساء المقيمات في مثل هذه البيوت الآمنة لتهديدات مستمرة لسلامتهن بسبب تعرضهنّ لمحاولات الاعتداء الجسدي والجنسي.
أما في حالاتٍ أخرى، وبعد سنوات من العمل في المنزل ذاته، يقوم بعض أصحاب العمل بإلقاء عاملاتهم في الشوارع دون أي احترام لإنسانيتهن، بحجة عدم قدرتهم على دفع أجورهنّ، حتى أن البعض ألقى بهن في قنصليات بلادهم.
وأُجبرت العديد من النساء على النوم على أرصفة الشوارع دون أمان ولا طعام ولا شراب يضمن بقائهنّ على قيد الحياة، وذلك لعدة أشهر في انتظار قنصلياتهن لمساعدتهن.
منذ انفجار مرفأ بيروت، ارتفعت أعداد العمال الذين أصبحت الشوارع مأواهم، دون أن يتلقوا المساعدة اللازمة من البلد المضيف أو من مواطنهم الأصلية، كون البلاد في حالة من الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي.
وحتى في حالات العاملات اللاتي لم يتم تسريحهن قبل الانفجار بفعل الاضطرابات الاقتصادية، فقد دمر الانفجار عشرات المنازل بحيث أضحت العاملات لا يعرفن ما إذا كان لديهن منازل يعودون إليها.
يبقى معظم العمال الإثيوبيين عالقين في لبنان بعد أن رفضت حكومتهم إجلائهم، ويفتقرون لفرص العمل كما كان الحال منذ فترة طويلة. وفي محاولةٍ يائسة للعودة إلى ديارهم، وجدوا أنفسهم عالقين لأن الكثير من أوراقهم الثبوتية وأموالهم قد مزقها الانفجار.
إذا لم تستجب حكومتا البلدين لمحنة هؤلاء العمال، فسرعان ما سيغرقون بصمت في أنقاض مدينة بيروت.
لذلك، على الحكوتين الكينية والإثيوبية، والتي ينحدر منها معظم العاملين المهاجرين في لبنان، الضغط على وزارتي العمل والخارجية اللبنانية لمنح المهاجرين حقوقهم الأساسية، خاصة فيما يتعلق بالعاملات المنزليات، إلى حين إيجاد طريقة لعودتهم إلى بلادهم.