الصين قوة اقتصادية ناشئة وانتهاكات حقوقية صارخة
شهد العالم نموًا اقتصاديًا كبيرًا في الصين خلال العقود القليلة الماضية، فبرزت هذه الدولة كقوة اقتصادية عالمية ذات تأثير قوي على الأمم المتحدة وغيرها من المنصات الدولية.
وأصبح نمو الصين الاقتصادي الذي حرر مئات الملايين من الناس من الفقر نموذجًا يُحتذى به في العديد من البلدان. مع ذلك، فإنه لا يمكن للتقدم الاقتصادي أن يخفي الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان التي تحدث داخل البلاد وخارجها.
مع تنامي النفوذ الاقتصادي والسياسي للصين، بات من الضروري مناقشة هذه الانتهاكات الجسيمة التي أصبح التقدم الاقتصادي ساترًا لها.
تشير الأدلة إلى وجود انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في الصين، بما في ذلك المراقبة الجماعية للسكان، وانتهاكات لمعايير العمل الدولية، والقيود المفروضة على حرية التعبير من خلال آليات متطورة للرقابة على الإنترنت، بالإضافة إلى تجاهل حقوق الإنسان في المشاريع الاقتصادية الكبرى مثل مبادرة “حزام واحد، طريق واحد” (BRI).
يسلّط هذا المقال الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان في الصين وكيف تشكل الصين تهديدًا لمعايير حقوق الإنسان العالمية بشكلٍ عام وتتسبب في انتهاكات لحقوق الإنسان في القطاع الاقتصادي بشكلٍ خاص.
يُعتبر الحق في حرية التعبير حقًا أساسيًا ومظهرًا مهمًا من مظاهر الديمقراطيات الحديثة، وتكفله معايير ومعاهدات حقوق الإنسان الدولية، بما فيها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وغيرها من المعاهدات الأخرى.
وبصفتها عضوًا في المجتمع الدولي، تعهدت جمهورية الصين بالتزام دولي بالعمل وفقًا لهذه الصكوك الدولية لحقوق الإنسان وهي ملزمة قانونًا باحترام الحق في حرية التعبير.
مع ذلك، خضع الحق في حرية التعبير لقيودٍ صارمة في البلاد، بل واتُّخذت السلطات الصينية العديد من التدابير لتقييده. شملت هذه الإجراءات الرقابة على وسائل الإعلام الاجتماعي والإلكتروني والمطبوع، بالإضافة إلى قمع الأصوات المعارضة بشكلٍ واضحٍ وممنهج.
تتبع السلطات الصينية إجراءات تقييدية صارمة لحرمان الفرد من ممارسة حقوقه الأساسية لتجنب انتقاده لسياسات الحكومة.
ظهرت منصات التواصل الاجتماعي في العالم المعاصر كوسيلة أساسية لممارسة حرية التعبير، حيث توفر منصة لكل فرد لمشاركة معتقداته، وأفكاره، ومشاعره مع الآخرين.
كذلك يستخدم العديد مواقع التواصل الاجتماعي لانتقاد السلطات الحكومية وسياساتها ونقل مظالمهم تجاهها. لكن في الصين، الأمر مختلف.
لا يحق للسكان الوصول بحرية إلى مواقع التواصل الاجتماعي والتعبير عن آرائهم واهتماماتهم، حيث طوّرت الصين برنامج رقابة متطور على الإنترنت للسيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي. فقد قامت، على سبيل المثال، بحظر عدة مواقع إلكترونية، منها: فيسبوك وانستجرام.
صممت الصين كذلك تطبيقات بديلة للتمكن من السيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يمكن للسلطات الرسمية في الصين من خلالها الوصول إلى المحادثات، والمراسلات، وغيرها من الاتصالات، وفي حال انتقد أي فرد أو شارك في أي عمل يتعارض مع سياسات الحكومة الحالية وبياناتها، يحق للحكومة فرض الرقابة على حسابه.
كما أشارت التقارير إلى أن السلطات الصينية حظرت ملايين الحسابات على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى فرضها الرقابة على المحتوى.
تعد هذه الأفعال انتهاكًا واضحًا لحرية التعبير. تُحرم كذلك الشركات الأجنبية، بما في ذلك عمالقة شركات التكنولوجيا، من الحق في إدارة أعمالها في البلاد، كما يُقيَّد وصولها إلى المجتمع الصيني.
لا تقيد الصين حرية التعبير داخل حدودها الإقليمية فحسب، بل تستخدم نفوذها السياسي والاقتصادي لتجنب الانتقادات الموجهة لحكومتها على المنصات الدولية أيضًا، فلدى الحكومة نظام رقابة قوي يفرض قيودًا على نشطاء حقوق الإنسان المحليين، الذين يحاولون الحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان في بلادهم على أية منصة دولية.
وبالمثل، يتم تكميم أفواه الصينيين الذين يعيشون في أجزاء أخرى من العالم من خلال تهديدهم بعائلاتهم التي تعيش داخل حدود الجمهورية الصينية.
على سبيل المثال، قال استشاري في التكنولوجيا مقيم في كندا: “إذا انتقدت الحزب الشيوعي الصيني علنًا، يمكن سحب استحقاقات تقاعد والدَيّ، وكافة مزايا التأمين الصحي الخاصة بهم”.
لا تتمتع الصين بالسيطرة المطلقة على الأفراد فحسب، بل تسيطر على الشركات أيضًا. فللعمل داخل الصين، يتعين على الشركات الصينية التصرف وفقًا لما تمليه الحكومة.
وينطبق هذا بالمثل على الشركات غير الصينية التي ترغب في الوصول إلى السوق الصينية أو العمل داخل الحدود الصينية. لذلك، لا تجرؤ أي شركة على انتقاد الحكومة الصينية علنًا.
فعندما غرد المدير العام لنادي كرة السلة “هيوستن روكتس” دعمًا للاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية في هونغ كونغ، علّق جميع الشركاء التجاريين الصينيين الرسميين الأحد عشر لاتحاد كرة السلة الوطني علاقاتهم مع الدوري.
فقام لاحقًا بحذف التغريدة وحاول نزع فتيل التداعيات المتزايدة. يعكس هذا القوة التي تمارسها الحكومة الصينية لتقييد حرية التعبير والنقد ضد سلطتها.
هناك مبادرة صينية أخرى مصممة لمراقبة أنشطة الشركات والأفراد وهي “نظام الرصيد الاجتماعي” وهو نظام يراقب كل نشاط للمواطنين الصينيين عبر شبكة الإنترنت وخارجها ويعطيهم تقييمًا بناءً على أنشطتهم.
يحدد هذا التقييم وسائل الراحة التي يحق للفرد الحصول عليها، بما في ذلك الأولوية في الرعاية الصحية، والقدرة على السفر للخارج، وما إلى ذلك.
لا يؤثر هذا التقييم على حياة الفرد فحسب، بل يحدد أيضًا وسائل الراحة المتاحة لأطفاله. فعلى سبيل المثال، يعتمد الحصول على تعليم جيد للأطفال على الرصيد الاجتماعي لوالديهم.
يعتبر “نظام الرصيد الاجتماعي” أداة للتحكم في سلوك الأفراد وهو تدخّل واضح في حياتهم الشخصية، مما يتعارض مع معايير حقوق الإنسان، كما أنه انتهاك صارخ للحق في الخصوصية، فهو يجعل المعلومات الشخصية في متناول الجمهور.
يحرم هذا النظام الفرد أيضًا من الحق في محاكمة عادلة من خلال عدم توفير آلية فعالة للطعن في التقييم وإزالة اسم الفرد من القائمة السوداء.
يستخدم الخوف من الإدراج على القائمة السوداء لضمان امتثال الأفراد الصارم لما تمليه الحكومة. يعد “نظام الرصيد الاجتماعي” مهمًا أيضًا من منظور الأعمال، حيث تحدد درجة الفرد فرصه الاقتصادية وآفاق عمله المستقبلية.
تعمل الصين على زيادة نفوذها الاقتصادي وتتخذ إجراءات جوهرية للوصول للريادة العالمية، وأحد أهم خطوة في هذا الاتجاه هي مبادرة “حزام واحد، طريق واحد”، وهي عبارة عن برنامج استثماري للبنية التحتية بقيمة ترليون دولار يوفر وصول أكثر من 70 دولة للسوق الصينية، وهي مبادرة تاريخية توفّر فرصًا اقتصادية وأعمالًا للعديد من البلدان النامية، إلى جانب وعود بفرص عمل وبنية تحتية أفضل، واقتصاد أكثر استقرارًا.
في هذه المبادرة، تم تسهيل وصول كل من الشركات المملوكة للدولة والشركات الخاصة في الصين للاستثمار في الأسواق الأخرى. ويمكن لهذه الشركات أن تعمل بشكلٍ مستقل أو بالتعاون مع شركات من البلدان المضيفة.
قد تساهم مشاريع مبادرة “حزام واحد، طريق واحد” بشكلٍ كبير في التنمية الاقتصادية للعديد من البلدان، لكنّ التنمية الاقتصادية ليست المؤشر الوحيد للتقدم والتنمية.
لا تتضمن الأعمال التجارية وغيرها من المشاريع التي بدأت في إطار مبادرة “حزام واحد، طريق واحد” شروطًا محددة تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان.
وأشارت الأدلة إلى أن الشركات التي تعمل ضمن مبادرة “حزام واحد، طريق واحد” تتجاهل حقوق الإنسان وقوانين العمل، فتخضع العمالة المشاركة في هذه المبادرة في بعض البلدان للاستغلال وسوء المعاملة.
لذا، يتعين على الصين ضمان الامتثال للمبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان في جميع مشاريع مبادرة “حزام واحد، طريق واحد”، كما يجب أن تخضع الشركات للمساءلة لضمان امتثالها لمعايير العمل وتحملها مسؤولية احترام حقوق الإنسان.
تتسبب مبادرة “حزام واحد، طريق واحد” أيضًا في زيادة انتهاكات حقوق الإنسان في البلدان المستفيدة، فتشير الدلائل إلى أن القيود المفروضة على حرية التعبير السائدة في الصين انتشرت أيضًا إلى دول أخرى.
تعد باكستان أحد أهم شركاء الصين في هذه المبادرة. ومع التقارب المتزايد بين باكستان والصين، تتزايد القيود المفروضة على حرية التعبير وانتقاد السلطات الحكومية في باكستان أيضًا.
على سبيل المثال، سنّت الباكستان قانون منع الجرائم الإلكترونية لعام 2016. هذا القانون الصادر عن البرلمان يقيد حرية التعبير على منصات وسائل التواصل الاجتماعي ويمكّن الحكومة من فرض عقوبات على مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، فيُعد هذا القانون خطوة نحو سيطرة الحكومة على المنصات الإلكترونية، مستوحى من النموذج الصيني لآليات رقابة الإنترنت المعقدة.
تستخدم الصين مبادرة “حزام واحد، طريق واحد” لتلميع صورتها في الساحة الدولية بمساعدة مشجعيها. فبموجب هذه المبادرة، تقدم قروضًا بمليارات الدولارات للعديد من البلدان النامية وتزيد من نفوذها وتأثيرها في هذه البلدان، مستخدمةً ذلك لمواجهة الانتقادات على المستوى الدولي.
على سبيل المثال، أسكتت الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي المستفيدة من مبادرة “حزام واحد، طريق واحد” الانتقادات الموجهة للصين بسبب اضطهاد الأقليات المسلمة وتعرضهم للتلقين العقائدي الإجباري، فتضطر هذه الدول النامية أن تتبع ما تمليه عليها الصين بسبب القيود الاقتصادية التي تفرضها عليها.
وبالمثل، تستخدم الحكومة الصينية قوتها لإسكات الانتقادات ضد انتهاكات حقوق الإنسان التي تحدث في هذه البلدان.
علاوة على ذلك، تستخدم الصين قوتها الاقتصادية لتغيير معايير حقوق الإنسان الدولية، فتقيّد السلطات الصينية وصول منظمات حقوق الإنسان الدولية إلى أراضيها وتبرر تصرفاتها بكونها فرضًا لسيادة الدولة.
كعضو في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وكقوة عالمية ناشئة، تتمتع الصين بنفوذٍ قوي، لكنها تستخدم سلطتها ونفوذها لانتهاك حقوق الإنسان. ولتجنب انتقاد انتهاكات حقوق الإنسان داخل أراضيها، تدير ظهرها لأكثر المضطهَدين على وجه الأرض.
تستمر الصين في وضع العقبات لتحول دون تطبيق حقوق الإنسان من خلال جعلها أمرًا ثانويًا لكل بلد بدلاً من كونها التزامًا قانونيًا، وتبذل جهودًا جبارة لإعطاء الأولوية للتقدم الاقتصادي وسيادة الدولة كأهم المعايير الدولية بدلاً من حقوق الإنسان.
نظرًا لاقتصاد الصين المتنامي والفرص الاقتصادية العديدة التي توفرها، لا تطيق غالبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على الوقوف في وجه قوة الصين، فهم مستعدون لإدارة ظهورهم لانتهاكات حقوق الإنسان مقابل المنافع والمكاسب الاقتصادية.
وباختصار، فإن السلطات الصينية تستخدم قوتها الاقتصادية للتغطية على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الجارية في أراضيها.
فتنتهك الشركات المملوكة للدولة، والخاصة، والأجنبية العاملة في الصين وأجزاء أخرى من العالم معايير العمل الدولية، وتفشل في الوفاء بمسؤوليتها في احترام حقوق الإنسان وتتورط في انتهاكات لحقوق الإنسان واستغلالًا للعمال. على مدار عقود، فشلت الصين في محاسبة هذه الشركات على انتهاكاتها لحقوق الإنسان.
لذلك، يجب كسر الصمت واتخاذ إجراءاتٍ جوهرية ضد انتهاكات حقوق الإنسان التي تحدث في الصين. تدعو إمباكت الدولية لسياسات حقوق الإنسان الأمم المتحدة إلى حشد دولها الأعضاء للضغط على الصين وضمان امتثالها للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، فالنمو الاقتصادي ليس المؤشر الوحيد للتقدم، ويجب على أعضاء المجتمع الدولي المطالبة بمساءلة الصين واتخاذ إجراءات جماعية ضد العملاق الاقتصادي.
إن كانت الصين تدّعي قيادة العالم، فعليها أن تتيح الوصول إلى منظمات حقوق الإنسان الدولية داخل أراضيها، وتضمن الامتثال لمعايير العمل الدولية، وتحترم حرية التعبير ومعايير حقوق الإنسان الأخرى.
اقرأ أيضاً: سكاي لاين: تطبيق في الصين للإبلاغ عن منتقدي “الحزب الشيوعي” قيد جديد على حرية التعبير