السودان.. إحدى أخطر الأزمات الإنسانية في العالم تدخل عامها الثالث وسط تجاهل دولي غير مبرر
بيروت – قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّ تقاعس المجتمع الدولي لأكثر من عامين عن اتخاذ خطوات حاسمة لوقف القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع سمح بتحوّل النزاع إلى كارثة إنسانية مزمنة؛ إذ يُترك عشراتُ ملايين المدنيين يواجهون يوميًا شحّ الغذاء والماء والرعاية الطبية، في انتهاك صارخ لالتزامات المجتمع الدولي بحماية المدنيين ومنع الجرائم الجسيمة.
وذكر المرصد الأورومتوسطي في بيانٍ صحافي أنّ استمرار القتال في السودان عمّق الأزمة الإنسانية إلى مستوى غير مسبوق، إذ تصنّفها الأمم المتحدة ضمن أشدّ الأزمات عالميًا، مع حاجة أكثر من 30 مليون شخص—أي قرابة ثلثي السكان—إلى مساعدات عاجلة في مجالات حيوية كالصحة والغذاء، وفي ظلّ انهيار اقتصادي حادّ وارتفاع هائل في أسعار السلع الأساسية، ما جعل الغالبية الساحقة عاجزة عن تلبية أبسط احتياجاتها.
ولفت إلى أنّ النزاع في السودان خلّف آثارًا مدمّرة على المدنيين، إذ قُتل خلال العامين الماضيين أكثر من 18,800 مدني نتيجة الاستهداف المباشر والعشوائي للأحياء السكنية والبنى التحتية المدنية بمختلف أنواع الأسلحة، بما في ذلك الغارات الجوية والقصف المدفعي والطائرات المسيّرة الهجومية والانتحارية، إلى جانب الاشتباكات المسلحة داخل المدن، وسط تقارير متكررة عن استخدام أساليب قتال غير قانونية تُفاقم الخطر على السكان، وتشكّل انتهاكًا واضحًا لقواعد القانون الدولي الإنساني، لا سيما مبدأي التمييز والتناسب واتخاذ الاحتياطات اللازمة.
وأشار المرصد إلى أنّ الفتيات والأطفال كانوا من الأشد تضررًا من النزاع، إذ وثَّقت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) 221 حالة اغتصاب لأطفال، منهم147 طفلة و74 طفل، في حين أنَّ 16 فردًا منهم يقل عمره عن خمس سنوات، من ضمنهم أربعة يبلغون من العمر سنة واحدة، وذلك في الفترة الممتدة على طول العام 2024 حتَّى آذار/مارس 2025.
كما تصاعدت الانتهاكات الجسيمة بحق الأطفال بما يفوق عشرة أضعاف خلال العامين الماضيين، واتسعت رقعتها الجغرافية بشكل غير مسبوق، فبعد أن كانت محصورة في مناطق مثل دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، امتدّت لتشمل أكثر من نصف ولايات السودان البالغ عددها 18 ولاية، ما يعكس انهيار منظومة الحماية وتحوّل المدنيين إلى أهداف مباشرة في سير العمليات القتالية.
وأشار المرصد الأورومتوسطي إلى أن الانتهاكات الجسيمة ضد المدنيين جاءت متكررة وممنهجة، تشمل القتل والتشويه، واختطاف الأطفال، والهجمات على المدارس والمستشفيات، مع تسجيله أعلى معدلات لهذه الأفعال في ولايات دارفور والخرطوم والجزيرة وجنوب كردفان خلال العامين الماضيين، وفق بيانات الأمم المتحدة؛ وتشير التقارير إلى وقوع 1,721 انتهاكًا جسيمًا بحق الأطفال في عام 2023 وحده، شملت القتل والإصابات والتجنيد والاغتصاب والهجمات على المدارس والمستشفيات، بزيادة تجاوزت خمسة أضعاف مقارنة بعام 2022 .
وقال المرصد الأورومتوسطي إنّ العنف الجنسي تحوّل إلى سلاح منهجي في النزاع السوداني، يُستخدم كأداة للسيطرة والإذلال، ويستهدف على نحو خاص النساء والفتيات في المناطق المتأثرة بالنزاع، حيث إنه وبحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA)، فإنّ أكثر من 12 مليون شخص في السودان، معظمهم من النساء والفتيات، معرّضون اليوم لأشكال متعددة من العنف القائم على النوع الاجتماعي، من بينها الاغتصاب، والزواج القسري، والاعتداء الجسدي والنفسي.
وأشار إلى أنه وفي ظل الانهيار شبه الكامل للنظام الصحي—حيث خرج نحو 80% من المرافق الصحية عن الخدمة في مناطق دارفور والجزيرة والخرطوم وكردفان— تحرم الناجيات من العنف الجنسي من الرعاية الطبية والدعم النفسي الطارئ، كما وتشير التقديرات إلى وجود نحو 6.8 مليون نازحة داخليًا، من بينهن أكثر من 160,000 امرأة حامل، معظمهن يفتقرن إلى الحد الأدنى من الخدمات الصحية الأساسية، ويُضطررن غالبًا إلى الولادة في ظروف غير آمنة كليًا، بما في ذلك مخيمات مكتظة أو أماكن غير مهيأة، من دون وجود طواقم طبية مختصة أو أدوات تعقيم أو أدوية أساسية.
ونبه الأورومتوسطي إلى أن هؤلاء النساء يواجهن خطرًا مزدوجًا، إذ يجتمع عليهن خطر الولادة الطارئة دون رعاية، مع احتمالات عالية للإصابة بعدوى أو مضاعفات مهددة للحياة، في ظل نقص فادح في خدمات النقل والإحالة الطبية، وتقييد شديد لوصول المنظمات الإنسانية.
كما نبّه المرصد الأورومتوسطي إلى تفاقم أزمة الجوع الحاد في السودان، والتي بات يعاني منها أكثر من نصف السكان، إذ يواجه نحو 24.6 مليون شخص انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي، فيما دخل أكثر من 638 ألف شخص مرحلة المجاعة الفعلية، ما يشكّل خطرًا وشيكًا على حياتهم، في ظلّ العوائق المتزايدة التي تعترض عمل منظمات الإغاثة، بما في ذلك نقص التمويل واستمرار الاشتباكات المسلحة وتقييد الوصول الإنساني.
وذكّر بأنّ النزاع الداخلي في السودان أفرز “أكبر وأوسع أزمة نزوح نموًا في العالم” بحسب الأمم المتحدة، إذ اضطر نحو 9 ملايين شخص إلى النزوح الداخلي، ولجأ نحو 3 ملايين آخرين إلى دول مجاورة، وسط ظروف إنسانية بالغة القسوة تتسم بندرة الغذاء والمياه وصعوبة الوصول إلى الخدمات الأساسية، وتفشّي أمراض خطيرة كالكوليرا والحصبة في المخيمات، في ظل غياب شبه تام للرعاية الصحية والمرافق الآمنة، ما يهدّد حياة ملايين المدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال، دون أي أفق واضح أو قريب للحماية أو الاستجابة.
وأشار المرصد الأورومتوسطي إلى أنّ عدد المفقودين في السودان قد يُقدّر بنحو خمسين ألف شخص، استنادًا إلى بيانات المجموعة السودانية للدفاع عن الحقوق والحريات، في ظل غياب أي جهود رسمية جادة ومنظمة للكشف عن مصيرهم أو توفير معلومات موثوقة لأسرهم، ما يُفاقم معاناتهم، مؤكدًا أن تعقيد هذه الأزمة يزداد مع استمرار النزاع المسلح، وصعوبة الوصول إلى المناطق المتأثرة، وانعدام إمكانيات التحري الميداني في المواقع التي يُعتقد أنّ عددًا من المفقودين اختفوا فيها قسرًا، وسط مناخ يسوده الإفلات من العقاب وانهيار منظومات التتبع والمساءلة.
وطالب الأورومتوسطي المجتمع الدولي، بما في ذلك مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، بفرض حظر فوري وشامل على توريد الأسلحة والطائرات المسيّرة وقطع الغيار إلى الأفراد والكيانات الضالعة في الانتهاكات الخطيرة التي يتم ارتكابها في السودان، مع اعتماد تدابير عقابية تشمل تجميد الأصول وحظر السفر، ما يضع حدًّا لتدفّق أدوات القتل ويقلِّص القدرة على ارتكاب جرائم إضافية بحق المدنيين.
وحث المجتمع الدولي على تعزيز عمل البعثة الدولية المستقلّة لتقصي الحقائق في السودان، وضمان تمويلها الكامل والتعاون معها وتوسيع صلاحياتها، بما يتيح لها الوصول الميداني وتوثيق الانتهاكات وتحديد الجناة تمهيدًا لإحالتهم إلى المحاكم الوطنية والدولية، لضمان عدم إفلات مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية من المساءلة.
كما دعا المرصد الأورومتوسطي إلى إنشاء آلية دولية موحَّدة لمعالجة ملف المفقودين والمختفين قسرًا، تُشرف عليها الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر، مع إلزام جميع أطراف النزاع بالتعاون الكامل وتسهيل الوصول من دون أن يملك أيٌّ منهم سلطةً على إدارتها أو قراراتها، وبما يضمن بناء بنك للحمض النووي، وتوثيقًا مركزيًا للأدلة، وإعدادَ خرائط للمقابر المجهولة ومواقع الاحتجاز السرّية، بما يكفل لأُسر الضحايا حقَّ معرفة مصير أحبّتهم وإنهاء دوامة الإخفاء القسري.
وشدّد الأورومتوسطي على ضرورة تنفيذ برنامج طارئ وشامل لمكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي، ، يتضمّن إنشاء «مساحات آمنة» متنقّلة في مناطق النزوح والقرى المعزولة، وبناء قدرات القضاة وضبّاط الشرطة على التحقيق المهني في جرائم الاغتصاب وسائر الانتهاكات ذات الصلة، إلى جانب استحداث شبكات إحالة سرّية وسهلة الوصول تضمن للناجيات الدعمَ الطبي والقانوني الفوري، مع تكثيف الحملات المجتمعية التي تُناهض الوصم وترسّخ ثقافة المساءلة.
وحث الأمم المتحدة والدول الفاعلة فتح ممرّات إنسانية آمنة، برّية وجوّية، تخضع لرقابة دولية، تتيح وصولًا غير مشروط للإمدادات الطبية والغذائية، وترفع أية قيود عن حركة العاملين في المجال الإنساني والإغاثي، مع ضمان احترام هذه الممرّات من جميع الأطراف.
كما طالب المرصد الأورومتوسطي بإطلاق خطة دولية متكاملة لإعادة الإعمار والتعافي المبكر، تُصمَّم بالشراكة الوثيقة مع منظمات المجتمع المدني، وتستند إلى مبادئ الشفافية والمساءلة، وتشمل معالجة شاملة لأوضاع اللاجئين والنازحين السودانيين، وتعويض الضحايا تعويضًا عادلًا، وتوجيه الموارد وفق أولويات تُحدَّد محليًا لضمان توزيع منصف وفعّال، بما يرسّخ أسس العدالة الانتقالية والسلام المستدام والتنمية الشاملة في مرحلة ما بعد النزاع.