الحقيقة لا تزال مدفونة: نضال عائلات المفقودين في سوريا بعد سقوط الأسد

بعد سقوط حكومة بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، عمّت الفرحة الشارع السوري مع انهيار أحد أكثر الأنظمة قمعًا في العالم. فتحت السجون، وخرج مئات المعتقلين الذين أمضوا سنوات في أقبية الأجهزة الأمنية، ليعانقوا عائلاتهم ويثبتوا أنهم على قيد الحياة بعد أن كانوا في عداد المفقودين.

لكن بالنسبة لآلاف العائلات الأخرى، لم يحمل سقوط النظام إلا صدمة جديدة: لم يعد أحباؤهم، ولم تصل أي أخبار عن مصيرهم. ومع مرور تسعة أشهر، لا تزال قضية المفقودين والمختفين قسرًا واحدة من أعقد الملفات وأكثرها إيلامًا في المشهد السوري.

وعندما فتحت أبواب السجون السورية في دمشق وحلب وحمص ودير الزور، ظهرت صور وفيديوهات لمعتقلين هزال الجسد، بعضهم قضى أكثر من عقد في الأسر. هؤلاء كانوا “المحظوظين”. أما الغالبية العظمى من المعتقلين والمختفين منذ سنوات، فلم يظهر لهم أثر.

وبالنسبة لعائلاتهم، فإن لحظة سقوط النظام لم تجلب الحرية، بل عمّقت جراح الانتظار. إذ تحوّلت آمال اللقاء إلى خيبة، ومعها بدأ نضال جديد عنوانه: الحقيقة والعدالة.

والعائلات التي فقدت أبناءها تطالب اليوم بثلاثة حقوق أساسية:

الكشف عن مصير أحبائهم: هل لا يزالون على قيد الحياة أم ماتوا تحت التعذيب أو في ظروف أخرى؟

استعادة رفات من ماتوا: كي تُقام لهم جنازات لائقة، ويُدفنوا بكرامة بعد سنوات من الإخفاء.

المحاسبة: ضمان عدم إفلات المسؤولين عن هذه الجرائم من العقاب، سواء كانوا من رموز النظام السابق أو من الجماعات المسلحة التي مارست الإخفاء القسري والقتل.

وقضية المفقودين لا تتعلق بالنظام السوري وحده، رغم مسؤوليته عن العدد الأكبر من الانتهاكات. فإلى جانب الأجهزة الأمنية والسجون السرية التابعة للنظام، ارتكبت جماعات مسلحة – بما فيها داعش وفصائل أخرى – جرائم اختطاف وإخفاء قسري بحق آلاف المدنيين.

هذا التداخل جعل الملف أكثر تعقيدًا: آلاف المفقودين محتجزون لدى أطراف مختلفة، بعضها لم يعد قائمًا، وبعضها الآخر لا يزال يرفض الاعتراف بمصير المعتقلين لديه.

ورغم إنشاء مبادرات محلية ودولية لتقصي الحقائق، تبقى المعلومات عن مصير المفقودين مجزأة وغامضة. كثير من السجون السابقة جرى تدميرها أو العبث بسجلاتها. وهناك تقارير عن مقابر جماعية في مناطق عدة، لكن الوصول إليها محدود، وأعمال التوثيق ما زالت في بداياتها.

وقالت إحدى الأمهات التي فقدت ابنها منذ 2012: “ظننت أني سأراه يوم سقوط الأسد. انتظرت أمام السجن حتى آخر لحظة. لكن لم يخرج… ما زلت أريد فقط أن أعرف: هل هو حي؟ وإن مات، أين دفنوه؟”

وعلى الرغم من سقوط النظام، ما زال الإفلات من العقاب هو السائد. فالمؤسسات القضائية السورية الهشة غير قادرة على التعامل مع هذا الملف الضخم. أما المجتمع الدولي، فيكتفي بإعلانات الدعم دون آليات واضحة للعدالة.

وتطالب منظمات حقوقية بإنشاء هيئة دولية مستقلة تعنى بكشف مصير المفقودين في سوريا، على غرار تجارب سابقة في البوسنة وتشيلي والأرجنتين.

قد يعجبك ايضا